كيس الرّسالة وكيس النّبوّة
يُفهم من كلام الشّيخ الشّعراوي أنّ علم الولاية أعمق من علم الرّسالة، وأنّ الغرْف من “كيس الولاية” أوسع من الوحي الذي يتنزّل على المرسلين من “كيْس الرّسل”!! لأنّ ما عند الخضر من علم ليس عند موسى -عليه السّلام- منه شيء. وهذا –الأخير- حقّ، فهل ما عند موسى -عليه السّلام- أحاط به الخضر وزاد عليه من كيْس الولاية ما لا يسْتطيع موسى -عليه السّلام- الغرْف منه؟! الجواب أنه لا يوجد عاقل فوق وجه الأرض يُسلّم بأنّ الله -جل جلاله- يعطي من يكلّفه بالتّبليغ والبيان والهداية وصناعة القدوة وتقديم المعجزة علمًا أقلّ مما يعطي ممنونًا عليه باختصاص واحد ليس مكلّفا بتبليغه، إذا خرج منه صار كعامّة النّاس.
فالعلم بالشّيء الواحد تخصّص، مهما تكشف لصاحبه فضْلُ التّفوّق فيه على غيره، لكنّه مفتقر إلى “هذا الغير” لاستكمال النّقص الذي فيه، ليبقى الكمال لله وحده. فسليمان -عليه السّلام- الذي أتاه الله ملكا لا يتأتّى لأحد من بعده وعلّمة منطق الطّير والنّمل، وسخّر له الرّيح والسّحاب يجري بأمر الله -جل جلاله- رخاءً حيث أصاب..
نقل له طائرٌ من ملكه أخبارَ ملكة كانت تعبد الشّمس على حدود دولته لم يكن على علم بها ولا بعبادتها حتّى قال له الهدهد: ((أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)) (النّمل: 22)، فهل كان الهُدهد أعلم من سليمان -عليه السّلام-؟ أم غنّ علم الهُدهد بهذه الجزئيّة فحسب يؤكد أنّ سليمان كان عالما بغيرها. وأنّ جهله بها دليلٌ على استحالة الإحاطة البشريّة بكلّ شيء لتكون الإحاطة لله وحده الذي هو بكل شيء محيط؟ وقل مثل ذلك عن رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- لما أشار عليه سلْمان الفارسي -رضي الله عنه- بتقنيّة حفر الخنْدق في غزوة الأحزاب، ولم يكن –عليه الصّلاة والسّلام- يعرفها، فهل يقدح عَدمُ معرفته بهذا الأسلوب العسكري في نبوّته ورسالته وعلمه؟ ولماذا لم يعلّمه ربّه تفاصيل فنّ الحرب واحتاج إلى تعليم من البشر؟ ومثلها ما حصل من تدبير في غزوة بدر…
إنّ الجواب عن مثل هذه الاستفسارات لا يخرج عن أصل واحد هو أنّ عطاءات الله موزّعة بين مخلوقاته جميعا؛ فقد تعلّم قابيل بن آدم مهنة الدّفن من غراب بعثة الله ينبش في الأرض!! فهل الغراب أذكى من الإنسان؟ أم إنّ الجاهل بالشّيء جاهل به ولو كان عالما بغيره؟ فإذا رأيت طيّارا يجوب أجواء الفضاء فلا تظننّ أنه يملك المهارة في قيّادة كلّ شيء، فقد يفشل في قيّادة درّاجة ناريّة أو درّاجة هوائيّة أو فرس أو جمل أو ركوب متن حمار، وقد يحتاج إلى مروّض خيول يدرّبه على ركوب صهوة جواد وسياسته. وذلك لا ينتقص من قدره شيئا.
فإذا تفوّق الخضر على موسى -عليه السّلام- بشيء من رحمة الله وبشيء مما علّمه من لدُنه في دائرة مخصوصة حدّدها الله له لا يستطيع مجاوزتها ولا يملك التّصرّف فيها من تلقاء نفسه، فتفوُّق موسى -عليه السّلام- عليه أكبر من ذلك وأوسع وأكثر قربا وأعلى رتبة وشرفا ومكانة ومشقّة في سبيل دينه؛ فقد صنعه الله على عينه وكلّمه كفاحا: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) (النّساء: 164)، وأعطاه كتابا فيه نورٌ وهدى وموعظة ورحمة: ((تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً)) (الأنعام: 154)، وبعثه رسولا إلى فرعون، وأيّده بمعجزات توالت واجتمعت له ولم تجتمع لغيره من المرسلين، وجعل له ميعادًا كلّمه حتّى أغراه لطفه بأنْ يسأله النّظر إليه -جل جلاله-، واصطفاه على أهل زمانه جميعا بالرّسالة، ومن أهل زمانه الخضر -رضي الله عنه-، اصطفاءً عامّا مستغرقا لجميع من كانوا في زمنه من البشر: ((إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي)) (الأعراف: 144)، وبزّ السّحرة بما أيّده الله به من معجزات في يوم زينة فرعون، وناداه ربّه بالوادي المقدّس، ومنّ الله عليه وأخاه هارون ونصرهما فكانا هم الغالبين: ((وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ)) (الصّافّات: 116).
لنقل إن العلوم ثلاثة: علم قائم على الأسباب، وعلم قام على الوحي، وعلم تجري به المقادير. ما عند الخضر كان من العلم الذي جرت به المقادير.