-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف وصلت علوم الأقدمين الى أوروبا؟

الشروق أونلاين
  • 1527
  • 5
كيف وصلت علوم الأقدمين الى أوروبا؟
ح.م

1- كابوس الذّاكرة

في القرن الثَّاني عشر كتب المؤرّخ المسلم أسامة بن منقذ خبرًا نشر ذعرًا كبيرًا في الشّرق الأوسط آنذاك. يقول الخبر أنَّ طبيبًا مُسلمًا أُستدعي إلى المعسكر النّصراني كي يُعالج مريضًا يُعاني من داء الدُّمّل في ساقه. وعندما قام الطّبيب العربيّ باعداد اللُّفافة ظهر فجأة طبيب آخر إفرنجي وسأل المريض أمامه إن كان يريد أن يموت بساقين أو يعيش بواحدة، ثُمَّ أشار عليه بالبتر. ممّا أدّى الى الكارثة: فبعد ضربة السّيف الأولى لم يتمّ القطع الكلّي للسَّاق الملتهبة، فلمّا قام بالضّربة الثّانية سال نِقيُ (نخاع) العظام وتوفّي المريض على إثرها. رجع الطّبيب المسلم بعدها الى داره مهزوزًا مدهوشًا من جهل النّصارى.

رُبَّما تبدو هذه القصّة مبالغًا فيها بعض الشَّيء ومع ذلك فهي تشمل لُبَّ الحقيقة. فنظام التعليم الطّبي مثله مثل الفلك أو الكيمياء وباقي العلوم كان مستوى تفوّق البلاد المُسلمة فيه بيّنا على الممالك النّصرانية إبَّان القرون الوسطى. ففي القرن الثَّامن الميلادي نجح الأطبّاء المسلمون بفتح أولى المستشفىيات، كما كانوا يكتبون الكتب الموجزة عن كيفيّة تسيير المراكز الصّحية، ممَّا لم يكن له مثيلاً في بلاد الغرب النَّصرانية. فهنا كان رجال الدّين هم من يُعالجون المرضى ويهتمّون بخلاص أرواحهم قبل أجسادهم.

2- حَضَرَت الأسفار وغاب منهج الفهم

الأكيد أنَّ أسفار الكتب الطّبية بمعطياتها كانت موجودة على أرض أوربَّا وبها دواء كلّ مرضٍ وكيفية التّعامل معه. لكن كيف يُستفاد منها وما المنهج العلمي الّذي يُبحث به فيها فهذا كان منعدما تمامًا. بخلاف العرب الّذين استفادوا كثيرًا من كتابات علماء اليونان القدامى. فما أن فتحوا البلدان الواقعة شرق البحر المُتوسّط والشّرق الأوسط حتّى صارت مراكز تلك العلوم تحت سُلطانهم، فأحسنوا استغلال ما يُسمّى بالعلوم غير المألوفة لديهم. فالمعلومات الجغرافية الجديدة ساعدت على تحديد أوقات الصّلاة والقبلة اتجاه مكّة بدقّة. كما أنَّ دخول العرب مدينة نيسابور ( إحدى محافظات ايران اليوم ) مكّنهم من الاتّصال المباشر مع المعارف الطّبيّة. ورغم أنَّ أغلب الأطبَّاء في هذه البلاد كانوا من النّصارى إلاّ أنَّ الخلفاء اتخذوهم أطبَّاءهم الخاصّين. فلم يُؤسّسوا فقط المستشفيات بالعاصمة بغداد بل ساهموا في ” دار الحكمة ” التي قام عُلماؤها من مختلف الأديان بترجمة الأعمال العلمية والفلسفيّة من اللّغة اليونانية والسّريانية والفارسية والهندية الى اللّغة العربية، وعلاوة ذلك طبّقوا كلّ تلك المعارف وأضافوا عليها تعليقاتهم وشروحاتهم. ولم يكن مجال التّقدّم محصورًا في ميدان الطّب وحده بل نجح الجغرافيون المسلمون في قياس محيط الأرض بدقّة مذهلة وأحدث الريّاضي الخوارزمي ثورة في نطام الأعداد تفوّق فيه على النّظام الرّوماني وأزاحه، كما أضاف الصفر والنّظام العشري الّذان لم يكونا الى ذلك العهد معروفين.

أدرك بعض علماء أوربَّا النّصرانية إبّان القرن العاشر الميلادي عظمة علم العرب وتطلّعت نفوسهم الى الاستفادة منه،غير أنّهم وجدوا أنّ أمر مشاركتهم في هذه المعرفة الهائلة لم يكن بالسّهل.ليس فقط لأنّ الترجمة من العربيّة الفصحى يختلف بجلاء ووضوح عن الترجمة من العربية العامية، وأنّه مهما طالت إقامتهم في البلاد الاسلاميّة فإنَّ تعلّمها ليس بالأمر الهيّن. ولكن لأنَّ جميع المراكز العلمية بالمدن المسلمة بالشّرق كان أغلبها بيد رجال الدّين ( الفقهاء ). كما أنّ أوربَّا قطعت صلتها من زمنٍ طويل بالشّرق وضاعت منها أغلب أعمال المؤلّفين اليونان مثل أرسطوطاليس وغيره،ولم يحافظ على تلك الصّلة إلاَّ إيطاليا التي بقيت طويلاً تحت الحكم البيزنطي فلم تقطع الصّلة بالشّرق. ففي ايطاليا ركّز دير مونتيكاسينو البنديكتي الواقع بين روما ونابولي جهده للعناية بكتابات القدامى وشيّد مكتبة شهيرة استطاع المتعلّمون فيه دراسة بعض المؤلّفات القديمة، ولكن للأسف كانت جلّ المؤلّفات والترجمات إمَّا ناقصة أو تنضح بالأخطاء الفادحة.

3- بداية الإنتحال والكِتمان

لم تستطع مكتبة الدّير أن تنمّي أو تزيد في محتوياتها إلاّ في أواسط القرن الحادي عشر عندما تولّى ادارتها رجلٌ تُسمّيه المصادر التاريخية اليوم بكونستانتينوس أفريكانوس وهو شخصية غامضة ينقصنا الكثير من التفاصيل عن حياتها. ومن المحتمل أنّه كان رجلاً مسلمًا درس الطّب ببغداد ثمّ تحوّل إلى الديانة النّصرانية، ومن المحتمل أيضًا أنّه ولد نصرانيا في حدود سنة 1020م بتونس – موطن أكبر طائفة نصرانية آنذاك بافريقيا – أين كان الكثير من متعلّمي الطائفة اليهودية والنّصرانية الشّباب يعملون في ذلك الوقت كأطبّاء. ولسبب غير معروف رحل كونستانيوس الى جنوب ايطاليا، فعمل في البداية في مدرسة سَالِرنو المشهورة للطّب التي كان يُشرف عليها البنيدكتيون قبل أن يقيم نهائيّا بمونتيكاسينو.

استثمر كونستانتينوس جهده في ترجمة جميع كتب الطّب لمؤلّفين يونان وعرب الى اللاّتينية الى يوم مماته سنة 1085م ثمّ قام بنشرها باسمه الخاصّ. وأختصرت تلك الأعمال فيما بعد تحت رمز ” أرتيسيلاَّ” وصارت الأساس للدّراسات الطّبية في كامل أوربَّا.

وإلى جانب هذه المبادرات الفردية التي قام بها كونستانتينونس الافريقي بدأت في الظّهور ترجمات من العربيّة الى اللاّتينية قامت السّلطات الدينية والسّياسية بتمويلها وتشجيعها،خاصّة في اسبانيا أين تعايش المسلمون والنّصارى منذ مئات السّنين في إتصال مباشر. فقد كان الجزء الإبيري الّذي كان تحت حكم المسلمين والّذي يُسمّونه ” ألأندلس ” مركز الإشعاع العلمي الإسلامي. وبعد حرب الإسترداد عمل العلماء النّصارى المستعربون واليهود والمسلمون المتحوّلون إلى النّصرانية على ترجمة المؤلّفات العلمية العربية، وتحوّلت مدرسة الكاتدرائية بطليطلة الى أهمّ مركز للتّرجمة، ولعب فيها الشّمّاس الإنجيلي والمُعلِّم جيرارد الكريموني دورًا بارزًا فنقل إلى اللّغة اللاَّتينية من سنة 1144م الى يوم وفاته سنة 1187م حوالي تسعين (90) عملاً. وكان يستعين بالمستعربين لترجمة النّص من العربية الى القشتالية ثمّ يقوم هو بنقله الى اللاّتينية، ومن بين هذه التّرجمات اربعة وعشرون (24) كتابًا في الطّب و سبعة عشر (17) في الرِّياضيات والميادين المتعلّقة بها، واثنى عشر (12) كتابًا في علم الفلك والتّنجيم. ولمّا خلَفَتِ الجامعات في الكثير من نواحي أوربَّا المدارس الكنسيّة تحوّلت هذه التراجم أساسًا للبحث العلمي الحقيقي فيها.

4- القرار الأخير

تحوّل الغرب الى حامٍ ومطوّرٍ للعلوم في اللّحظة التي بدأ فيها العالم الإسلاميّ يواجه الكثير من المخاطر والتّهديدات وخاصّة في شرقه، عندما تجح المغول سنة 1258م في اجتياح بغداد واحراق مساكنها ومساجدها ومكتباتها حتّى أنَّ المؤرّخين الّذين عاشوا في تلك الفترة نقلوا صُورًا مُروّعة لحجم الدّمار والخراب الّذي لحق تلك الأعمال التي لا تُعوّض والتي رُمي بها الى النّار أكوامًا وأكداسَا، ولم نعد بعدها نحتفظ إلاّ بالمؤلّفات العربية المترجمة الى اللاّتينية، أمّا الأصل فقد ضاع الى الأبد.
لقد تطلّب الأمر وقتًا طويلاً حتّى تتفوّق أوربَّا وتتجاوز مُعلّميها الشّرقيين. ففي بدايات سنة 1200م قام الأطبّاء الأوربيون بتأسيس أولى المستشفيات، لكنّها كانت متخلّفة كثيرًا عن المستشفيات في بغداد، فلم يكن بها مصحّات للأمراض المعدية، كما كان في بغداد نظام الدّوام اليومي للأطباء،و لم يظهر في أوربَّا إلاَّ في بداية القرن الخامس عشر، وحتّى أواسط القرن السّابع عشر بقيت كتابات المؤلّفين العرب مرجعًا وحيدًا للتّكوين في الجامعات الغربيّة. وصارالأوربّيون على الأقلِّ يعرفون أنَّ هناك طُرقًا أخرى للتّعامل مع الدُّمَّل بدل البتر بحد السّيف.
*المقال مترجم من مجلّة: G- Geschichte/ العدد 6/ 2018

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • م س

    لم تكن هناك اي حضارة يونانية كله كذب في كذب حضارة الخرافات و الاساطير و الشعوذة لم يكن هناك لا ورق و لا طباعة لا تقل لي علوم و مؤلفات بلالاف على الحجارة و جلد الماعز شيئ مضحك و الافكار اللتي اتى بها الفلاسفة اليونانيون و اللتي ثاثر بها بعض المنبطحون من امثال ابن سينا و ابن الرشد فقد ادحضه حجة الاسلام في كتابه تهافت الفلاسفة

  • نحن هنا

    من يبحث يجد لكن هناك فرق بين من يرغب في العلم ويصهرويتجند له وبين من ينام على بطنه وينتظر الكرامات بعد أن استحالت المعجزات بعد خانم النبيئين محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام

  • عبدو*

    هذا المقال يخاطب اصحاب العقول البعيدين عن غسيل المخ الفرانكوبربريست الكاره لكل ما هو مسلم و عربي .
    جميع ما وصل اليه الغرب اليوم ما كان ليحصل لولا العرب و اقولها العرب فعندما كانوا يحكمون كان الاستقرار موجودا و عندما تمكن ابناء الجواري من الحكم بدا الانحدار و خير مثال ما حصل في الدوله العباسيه فلقد بلعت قمتها مع حكم هارون الرشيد و بدا الانحدار بعده بالنزاع بين الامين و المأمون و تمكن المأمون الذي كانت امه جاريه من الترك فغلب العنصر التركي الذين عاثوا فسادا لم يكن موجودا من قبل

  • أمين

    فعلا شهد العالم الإسلامي طفرة علمية بسبب تفوق العقل المسلم و حرية التفكير و لكن هذا لم يستمر فالأزمات السياسية و الفكرية خاصة ببروز تيارات تحاول تقزيم دور العقل شهد المسلمون ركودا علميا لا مثيل له كان آخر انتاج لهم عقل ابن خلدون الذي مثل آخر العنقود في الطفرة العلمية ، بعدها يدخل العالم الإسلامي في انحدار حر الى اليوم ....

  • franchise

    - المشكل أن معرفة المسلمين كانت محصورة في دار الحكمة و بعض الدوائر الضيّة المقربة إلى الملوك و السلاطين، و الدليل أن حرق المغول لدار الحكمة ببغداد, كان كافيا للقضاء شبه كلّي على المعرفة عندنا، ففكرة الأكادمية و الجامعات لم يعمل بها المسلمون، و النّقد العلمي الذي هو أساس المعرفة بقي محصورًا في بعض الأسماء التي نتباهى بها إلى يومنا هذا
    - غير صحيح تمامًا أن إيطاليا هي التي حافظت على الصّلة بالشّرق، و لم تكن تحت حكم بيزنطي بل كانتا منفصلتين و هذا ما يعرفه علماء التاريخ ب schism. بل بيزنطة هي التي إحتفظت ببعض أعمال الإغريق و الرومان، و بعد سقوط قسطنطينبلس على يد المسلم ورثها ورثها الفاتيكان