-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف يغفل الدستور عن صون المدرسة؟

كيف يغفل الدستور عن صون المدرسة؟
ح.م

لا يمكن تداول لفظة: “مدرسة” تداولا مجرّدا، إذ أن معناها لا يكتمل إلا بالصفة الملازمة لها. وإن أصدق صفة تليق بكيان المدرسة هي صفة: “الوطنية”؛ لأن المدرسة لا تستلهم مرجعيتها إلا من قيّم ومُثل ومبادئ المجتمع – الوطن الذي تنبت في أرضه. وهي وحدها من تتكفل بحمل أعباء وأثقال نقل إرث الأمم إلى أجيالها المتتابعة للمحافظة على تمايزها في وفاء والتزام نادرين. وأن عزة أي أمة حية مرهونٌ بالفعل المدرسي، وبنوع التربية التي تقدِّمها مدرستها لمن يرتادونها. وفي التاريخ، نجد أن المدرسة هي من تقف في الصف الأول سدا منيعا أمام كل محاولات الغزو الفكري والسيطرة الثقافية، وتعمل على إبطال نظرية استسلام المغلوب للغالب، ولو أعجب به، وأن بذور الدفاع والرفض والانبعاث والنهوض لا تزدهر منابتها إلا  في المدارس لمقاومة كل انمساخ وانسلاخ ومسخ.

أما سبورات أقسام المدارس، فهي الصحائف التي يمكن أن تقرأ فيها التكهنات والافتراضات التي سيكون عليه مستقبل الأمة، وتتوقع مكانتها ودورها بين الأمم، إن علوا ورُقيا أو تخلفا واندحارا. ومنذ أن وُجدت المدرسة، كانت معبدا للوطنية الأصيلة التي تصنع الاعتزاز بالذات، ومخبرا للمواطنة الفضلى التي تؤسِّس للتوافق والتعاشر والتسامح بين أبناء الوطن الواحد. ولذا كان التعدُّدُ مقبولا في السياسة، ولكنه مرفوضٌ في مضامين النظم التعليمية التي تطبقها المدارس.

تعرضت مدرستنا الوطنية منذ الانفتاح الديمقراطي أو قبله بقليل، لهزات أرهقتها وأزعجتها، وأهزلت مردودها النوعي وأهدرت دسمه حتى أبعدته عن الجودة المنشودة، وقللت من عطاءاتها، وأردأت غلالها من المخرجات، وحوّلتها من مدرسة طموحة وراغبة في إعداد الناشئة لخوض معتركات الحياة إلى مدرسة أتعبتها تقلبات المجتمع وتأثيرات الأمراض التي سطت على جسمها. وبسبب ما ذُكر، كان يُنتظر من اللجنة المكلفة باقتراح التعديلات الدستورية أن تضع شأن المدرسة الوطنية في عداد حسبانها اعتبارا لمكانتها العالية ولدورها الكبير ولقوة رمزيتها، وأن تخصّها بذكر في الديباجة تلحقها بمادة دستورية صارمة تؤكد على وجوب صونها لتعزيز قداستها كمؤسسة مجتمعية أولى.

ليس من سداد الحكمة أن تترك المدرسة تواجه مصيرها بنفسها، ولا تلقى أعضادا تسعفها وتبعد عنها الشرور المتربِّصة بها، وتخلّصها من المحن التي زعزعت مسيرتها، وغرست في طريقها الموانع والحواجز لهزمها والغدر بها في وضح النهار.

لقد جاء على مدرستنا الوطنية زمنٌ أهوج من الدهر، استغلته من توّلت قيادة أمرها في السنوات الأخيرة لتمرير رؤاها التغريبية، وترسيخ سيادة نظريتها المستقبحة. ووجدت من معاونيها الذين اختارتهم من كان لها مشجعا وسندا. واستطاعت، بفضل الحماية التي وجدتها، أن تعبث في محتويات الكتب المدرسية بتمرير معلومات مشوّهة ومناقضة لقيمنا تحت ادعاء أنها “أخطاء مطبعية” لم يحصل التفطن لتصويبها في الوقت المناسب، ككتب اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا. وفي خطوةٍ خبيثة لاحقة، حُذفت البسملة من هذه الكتب حتى تُشغل الناس عما هو أخطر وأقذر. كما عملت، ومن خلال إشاعة اقتراح ماكر، فحواه أن يكون التدريس في السنوات الابتدائية الأولى باللهجة الدارجة، عملت على الطعن في اللغة العربية الفصحى مروِّجة فرية “غُربتها” عن لغة الأسرة والشارع، وإعاقتها لتعلم المبتدئين الذين لا يجوز أن نفاجئهم بها، حسب اعتقادها، لأنها تسبِّب لهم استغلاقا واحتباسا، يترتب عنهما نفورٌ مبكرٌ من المدرسة وكرهٌ للذهاب إليها!؟

استشرَتْ الدروس اللصوصية التي تشبه النباتات الضارة التي تظهر في الحقول والبساتين، وتسببت في ضياع القيم التربوية الثمينة، وعادت بلاياها على المدرسة وعلى المعلمين والأساتذة أنفسهم، وأصابت ميزانيات عائلات كثيرة وأوقفها على حافة الفقر والضياع. وأشاعت العنف في المدارس بعد أن ضيّعت وقار المعلمين والأساتذة وأصبحوا يرضون بالإهانات. ولم يعد المتعلمون يخشون من العقوبة إذا جاؤوا بسلوكات خائبة بتواطؤ ممن يعلمونهم حتى يحافظوا عليهم كزبائن دائمين خارج المدرسة. ورضي المعلم والأستاذ بكل صنوف الاحتقار والاستهتار، بعد أن تراخى عن إتيان واجباته كاملة في المدرسة، وتحوّل من مربّ رسالي رفيع الهمّة، إلى تاجر لا شغف له إلا الكسب المادي. وحتى في زمن داء الكورونا الذي فرض على كل المؤسسات التعليمية والتكوينية غلق أبوابها من باب الاحتراز الوقائي، جازف المعلمون والأساتذة بتقديم هذه الدروس في أماكن مغلقة وفي سرية عارمة ولصوصية مهينة. فكيف يحافظ المربّي الذي رضي أن يضع صحته الغالية في مهب الريح على سمعة المدرسة الوطنية؟

ظهور ما يسمّونه بـنقابات التربية التي تناسلت عددا بلا طائل يرجى، أرعب المدارس بسبب اتفاقها حول الدعوات المتكررة إلى الإضرابات المفتوحة التي تمتد أحيانا أسابيع من دون أن ترعى حق المتعلمين في التعلم أو تمنح لعامل الزمن وزنا وقيمة. وإن هذه الإضرابات التي تبدو كفعل انتقامي قد بدّدت، وحسب بعض التقديرات، ما يزيد عن موسمين تعليميين كاملين. ولو قدّرناهما بالحصص لوجدناهما قد تحوّلا إلى ملايين الساعات الضائعة هباءً منثورا. والزمن المدرسي أغلى من عملات الذهب الخالص. ومثلما استفاد بعض النقابيين من مزايا كالتفرغ من العمل تفرغا نهائيا، واستغلوا هذه الفرصة في تحسين أوضاعهم الخاصة، ولم يترددوا في خلط النشاط النقابي بالعمل السياسي؛ لأن أغلبهم مأمورٌ وموجَّه، فإننا نجد من النقابيين المدسوسين من لعب دور الظهير المناصر لصاحبة التوجُّهات التربوية الهجينة التي كانت ترمي إلى تغيير السياسة التربوية والابتعاد عن مبادئها الوطنية الكبرى، ووقفوا مؤيدين لرؤاها الوافدة بالكلمة والفعل وبالتصفيق والإشهار.

ساقت هذه التصرفات انتكاسات وانكسارات إلى المدرسة الوطنية حتى كادت تصيبها في مقتل. وجعلت حركتَها عرجاء، ومنتوجَها قاحلا أجدب، وعطلت توظيف المنحى البيداغوجي في الأداء التربوي ومنها تطبيق المقاربة التدريسية بالكفاءات، وجعلها عماد كل الممارسات الفصلية التعليمية والعمليات التقويمية في المدارس وفي الامتحانات الرسمية. وأبقت الأمور تدور في حلقة مفرغة وبلا فائدة مكتسبة. واستحسن المعلمون والأساتذة وأشباه المفتشين هذه الوضعية التي تعبِّر عن الركود والخمول، وتريح من تعب البحث عن كل جديد مفيد.

تتسم سطور الدساتير بالعمومية المفرطة والشمولية التامة. وأما المطالبة بتخصيص جملة أو جُمل ترعى صون المدرسة الوطنية في الدستور القادم، فلا يعني أن تقابل بمادة أو مواد مباشرة وصريحة ودقيقة في صياغاتها، وتشير بالتفصيل إلى المشكلات التي أشرنا إلى بعضها وتذكرها ذكرا، وإنما أن تستعمل فيها عبارات شاملة وصارمة وتأكيدية تنحرف إلى التأويل الإيجابي إن غابت عنها الدقة في التعبير، وتضع حدا نهائيا لكل ما يكبح عمل المدرسة كمؤسسة يجتمع حولها كل أبناء الوطن من دون تمييز أو تفضيل، ويزرع في فضائها الاضطراب والفوضى، ويجهض منتوجها ويشينه من حيث النوع والكيف على حد سيان. وأن تقاوم هذه الإشارات التعبيرية تشكل كيانات تعليمية موازية لها خارج إطار القانون، وأن تضمن انعزالها عن التجاذبات النقابية، وأن تجعل من العمل النقابي عملا تطوعيا من دون امتيازات مغرية، وأن تمنع فرض الإضرابات في المدارس كما هو معمولٌ به في بعض القطاعات الحساسة، وذلك من خلال مراجعة القوانين التنظيمية المعمول بها حاليا وتحيينها وتفعيلها أو من بعد سن قوانين أخرى تدعم سابقاتها، وتسد القصور الملاحَظ فيها إن وُجد.

ألمحت الديباجة التي مهدت للتعديلات الدستورية الأخيرة إلى المدرسة تلميحا عاجلا لم يراع المكائد التي تتهددها، وتوقفت عند حدود الإشارة إلى دورها التربوي النوعي الذي يراد منها أن تكفله للنشء تكملة لدور الأسرة. ويا حبذا لو توسّعت هذه الإشارة الخاطفة حتى تأتي بما يحقق صون كيان المدرسة الوطنية، ويرعى سلامتها ونجاعتها، وينجيها من كل الممارسات الباطلة والمجحفة التي تؤلمها وتمحو بديع أثرها في صناعة أجيال تتمتع بتكوين حصيف وتهيئة محكمة ومشدودة بحبل متين إلى قيم الوطن.

العبارات المؤلفة للمادة 68 من التعديلات المقترحة (المادة 65 سابقا)، وخاصة الفقرة التي تنص على: (تسهر الدولة على ضمان حياد المؤسسات التربوية وعلى الحفاظ على طابعها البيداغوجي والعلمي)، لا أعتقد أنها تفي بالرجاء المأمول كاملا غير منقوص؛ لأنها ترسم حدودا للنشاطات المدرسية وتُلزمها بها، ولكنها لا تكفل أي حماية للمدرسة تفرض التقيد بها من طرف المسؤولين عنها في كل المستويات والمتعاملين معها سواء أكانوا فعليين أم شركاء؛ فإلى جانب الحياد، ينبغي أن تُسطّر قواعد لصون المدرسة صيانة تقيها من المفاسد المتربصة بها، وتبقيها ملتحمة بأهدافها الوطنية السامية المسطرة لها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • خليفة

    فعلا يجب ابعاد المدرسة عن الصراعات الايديولوجية و الالاعيب السياسية المرتبطة بالمصالح الانية،كما يجب تحديد الاهداف الكبرى للمدرسة الجزاءرية ،و محاولة ربطها باصولها العربية و الاسلامية و تطلعها على مختلف معطيات المعاصرة و خاصة في ابعادها العلمية و التقنية ، و اللغوية،كما يجب ضبط العمل النقابي في المجال التربوية ،حيث لاحظنا ان بعض النقابات تتخذ التلميذ رهينة لتحقيق مصالح خاصة و على حساب العمل التربوي و مكتسبات التلميذ ،نلاحظ ان بعض رءساء النقابات يحترفون السياسة على حساب العمل التربوي ،و هم نفس الوجوه باقية على راس تلك النقابات دون تداول ديمقراطي ،و هذا ما يفسر البحث عن مصالحهم الخاصة .

  • KF

    وضعت الاصبع على الجرح يا استاذ لمباركية. وكملاحظة فقط تجنب التعميم فيما يخص المربين اصحاب الدروس الخصوصية او النقابات الرافضة للعمل ( ولا اقول المضربة عن العمل). اتمنى لك التوفيق ولما لا منصبا ساميا يقوم المؤسسة التربوية في بلادنا وانت لا زلت في اوج العطاء.

  • ابن الجبل

    عندما كنت تلميذا في الابتدائي في سنوات الستينات ، كنا نقرأ في كتب التاريخ أن الجزائر أمة عظيمة ، تاريخها حافل ،يبدأ من العصور الغابرة ، حيث مملكة ماسينيسا ويوغرطا ، التي تسيدت شمال أفريقيا الى الشام وروما ... ثم الخلافة العثمانية ، التي أصبحت الجزائر سيدة البحر الأبيض المتوسط . ومدن ك :بجاية وتلمسان صارت منارات للعلم يقصدها حتى الأوربيون ... ثم ميعوا لنا تاريج الجزائر . وعلمونا أن تاريخ الجزائر يبدأ من دخول فرنسا الى الجزائر ...!! ألا يجب أن يرفع الجزائري رأسه عاليا ، بأنه من أمة عظية اسمها الجــــــــــــــــــزائـــــــــــر ؟!.

  • ثانينه

    الجزائر بلد له عمق في تاريخ الانسانيه له حضارته وثقافته لابد للمدرسه الجزائريه ان تتبني تاريخها الاصيل والحقيقي ولايجب الانقاء اوالقفز عن اصل الجزائر ثم لابد من دراسه تراث الجزائر بتنوعه ولانستورد تراث الغير لنا ما نفتخربه يجب تدريس مواصع الكتاب الجزائريين لا الشرقيين او الغربيين حتي نخلق جيلا يعتز بجزائريته وفي المستىيات العليا طبعا لابد من التفتح علي كل الثقافات والمعارف وخاصه تعلم اللغات هده هي المدرسه التي تجمع توافق الجزائريين دون اقصاء اما غير دالك فسنبقي الي الابد في مشكل الهويه