لا تقتلوا الموّالين لإحياء “بارونات” الاستيراد!
من المكاسب الماليّة المهمة جدّا خلال عهدة الرئيس عبد المجيد تبّون هي إعادة ضبط التجارة الخارجية، بقطع الطريق على مافيا الاستيراد التي حوّلت البلد إلى “بازار” كبير لكل خردوات العالم، مُستنزفة موارد الخزينة العمومية من العملة الصعبة، حتى تجاوزت واردات الجزائر 70 مليار دولار سنويًّا، مع ما نجم عنها من تهريب ممنهج لـ”الدوفيز”.
بمجيء الرئيس تبون صدر القرار الحاسم بغلق باب الاستيراد العشوائي والتوجّه الجاد نحو تحفيز الإنتاج الوطني وتشجيع المتعاملين الوطنيين ضحايا المنافسة غير الشريفة، وهو الأمر الذي قاومته كثيرا مراكز الفساد و”لوبيات” الاحتكار، بافتعال أزمات متوالية وحملات إعلامية سياسية مضللة، دفاعًا عن مصالحها الضيقة.
لكن السلطات العليا ظلت ثابتة على خيارها النزيه، مع مرونة عقلانيّة في ضمان توريد حاجيات الجزائريين الضروريّة من السلع التي لا يغطيها الإنتاج المحلّي، وقد عبّر رئيس الجمهورية مرارا عن سياسته الواقعيّة بخصوص التجارة الخارجية، من خلال توجيه الحكومة إلى التكفل الكامل بغذاء المواطنين ودوائهم وكل ما هو أساسي ولا يتوفر بكميات كافية في السوق الوطنية.
يبدو اليوم أن هناك أطرافًا، وربما شبكات بأطراف متكاملة الأدوار، تريد استغلال هذا التوازن الحكيم في إدارة ملف الاستيراد، للعودة إلى توريد كل شيء وإجهاض استراتيجية ترقية المنتوج الجزائري تدريجيّا، لذلك ترفع صوتها، باستعمال جمعيات المستهلكين ومواقع التواصل والصحافة، للمطالبة باستيراد المواشي على أبواب عيد الأضحى المبارك.
إذا كان الاستيراد إجراءَ لتلبية حاجيات المواطنين المشروعة، فهل من المنطقي أن يكون على حساب الاقتصاد الوطني؟ والمقصود هنا أن يأتي على حساب عشرات الآلاف من الموّالين عبر ربوع الوطن، الذين يكابدون في مهنتهم الشاقّة طيلة العام، في زمن هجر فيه الناس تربية المواشي، فارّين نحو المدن والحواظر الكبرى.
إن العقلانية في التسيير تفرض تحليل واقع سوق المواشي في الجزائر والبحث في أسباب ارتفاع أسعارها، ثم معالجة الوضع من جذوره، وليس عن طريق مهدّئات الأعراض الجانبيّة.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود 17 مليون رأس غنم على الأقل في بلادنا، بينما لا يتعدّى عدد الأضاحي 4 ملايين سنويّا، ما يعني أن مشكلة الأسعار لا ترتبط إطلاقا بقاعدة العرض والطلب، وهو ما يجعل المطالبة باستيرادها غير مبررة ولا بريئة.
لقد اشتكى الموّالون خلال السنوات الأخيرة من ارتفاع تكاليف مُدخلات تربية الماشية بسبب الجفاف وغلاء العلف وأزمة الغذاء العالمية في ظل التوترات الجيوسياسيّة، فضلا عن تراجع الاهتمام المهني بالرعي في بلادنا ونقص اليد العاملة في القطاع لاعتبارات كثيرة.
زيادة على ذلك، فإنّ الجميع يعلم أن السوق لا يتحكم فيها المربون ولا المنتجون بل المضاربون السمامرة الذين يتربّحون في فوضى التجارة، ما يجعل ضبط الأسعار منوطا بالقضاء على هذه الظاهرة غير الطبيعيّة.
إن من الواجبات المستعجلة للسلطات العمومية هو إيجاد حلول عمليّة تقنيّة للحيلولة دون سيطرة المُضاربين على السوق، خاصة في المواسم الاجتماعية الكبرى، وقد نجحت التجربة خلال الدخول المدرسي ثم شهر رمضان الأخير، وينبغي تكرارها خلال عيد الأضحى القادم بفتح أكبر عدد ممكن من نقاط البيع المباشرة، لربط الموالين بالمستهلكين من دون وسطاء، خاصة في المدن الشماليّة، بعيدا عن الولايات الداخلية والجنوبية والمناطق السهبيّة، لأن السمامرة يرفعون كثيرا من هامش الربح على حساب المستهلك.
كما أن من مسؤوليات الحكومة التعجيل بالحلول النهائية لمشكل تراجع الثروة الحيوانية من الإبل والأغنام والبقر في بلادنا، بسياسة تحفيزية ناجعة، لأنه من غير المعقول احتياج بلد في حجم قارّة لاستيراد اللحوم الطازجة أو الأضاحي وحتى غبرة الحليب، بينما تتوفر الجزائر على كل مقومات التفوق في هذه الشعبة الاستراتيجية بالنسبة للأمن الغذائي.
التفكير الآني باللجوء إلى الاستيراد لن يحلّ المشكلة الظرفيّة، بل يعمقها بالقضاء على منْ بقي مُتشبثًا بالمهنة الآيلة للزوال إذا لم تتدارك السلطات الأمر بخيارات عصرية فعّالة، ولعلّ المروجين هذه الأيام لفكرة جلب الكباش من رومانيا يستهدفون ذلك، لفتح باب جديد لتجارتهم المضمونة وربحهم السهل، بعدما أغلق الرئيس تبون في وجوههم استنزاف العملة الصعبة.
سياسة الجزائر في عهدها الجديد واضحة وإيجابية، قوامها السيادة الاقتصادية والاعتماد على النفس، بترقية الإنتاج الوطني في كل القطاعات والتخلص من التبعيّة، ولا يمكن المساس بها تحت ذريعة تمكين الجزائريين من إحياء سنة سيدنا إبراهيم، بينما تريد البارونات موردا بديلا لاستكمال مراكمة الثروة الماليّة، وآخر اهتمامهم هو التفكير في المواطن.
إن السؤال البسيط والتلقائي في هذا السياق هو الآتي: لماذا لا يتقدم هؤلاء الراغبون في استيراد المواشي للجزائريين للاستثمار المباشر في هذه الشعبة، عبر السهوب والصحاري الممتدة في جزائرنا الشاسعة الجغرافيا، خاصة في ظل التدابير التحفيزية التي أقرتها الحكومة؟
طبعًا الجواب واضح: وهو أن تجّار “البازار” ليسوا مُتعاملين مُنتجين لمصلحة الاقتصاد الوطني، بل أعينهم على أموال الخزينة العمومية، ويضغطون بكل الطرق لمواصلة سياسة التحطيم المنتهجة لإمكانات البلد منذ تسعينيات القرن العشرين تحت شعار “اقتصاد السوق” الذي أخذ مسارا واحدا في اتجاه الاستيراد المفرط والعشوائي، أما التصدير خارج المحروقات فظلّ خطابا مستنسخًا يلوكه المسؤولون في كل مناسبة إلى غاية 2020، حين رفعه رئيس الجمهوريّة إلى صدارة الأولويات الفعلية والميدانية.