-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا تنتظروا الرئيس تبون في باريس قريبًا!

لا تنتظروا الرئيس تبون في باريس قريبًا!

الموقف الفرنسي المعبَّر عنه مؤخرا تجاه القضية الصحراوية لا يحمل في ثناياه أي جديد مؤثّر بالنسبة للصحراويين ولا باقي حلفائه الدوليين، ولم يكن متوقعًا سواه في الواقع، غير أنّ ما انطوى عليه من إشارات سلبيّة في هذا التوقيت بالذات يمثل ذروة الاستفزاز السياسي للجزائر، خاصة في ظل تطلّع باريس لبناء علاقات مرتكزة على الآفاق المستقبلية.
تاريخيًّا، ينبغي التذكير بأنّ فرنسا كانت من البداية، وستبقى قطعًا إلى إشعار آخر، داعماً للمغرب بـ”الأظافر وبالأسنان وباللسان، لأنها مصابة بعقدة اسمها الهزيمة في الصحراء الغربية في 1900م، حين لم تتمكن من احتلالها”.
لذلك ظلت باريس تدعم المغرب في احتلاله للصحراء الغربية على مرّ العقود الماضية، لأجل تحقيق حلمها الاستعماري بطريقة أخرى، بعودة الصحراويين إلى بيت الطاعة الفرنسية من جهة، والتمكّن من ربط دول إفريقية تابعة لها بالسكك والطرق والخطوط الجوية والموانئ عن طريق المغرب، مروراً بالصحراء الغربية، لتكريس سيادتها في تلك المناطق، مثل ما يشرحه الكاتب الصحراوي حمدي يحظيّه، في أحد أعماله المميزة عن القضية.
كما يرتبط وقوف فرنسا وراء دعم النظام المغربي التوسعّي بعقدة أخرى أكبر مع الجزائريين، إذ يرى الفرنسيون أن الصحراء الغربية في حال استقلالها ستشكل امتدادًا جغرافيًّا للمحور الثوري في المنطقة بقيادة الجزائر، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لخادمها الإقليمي في المغرب.
لا ننسى أن الغرب الإمبريالي الاستعماري كان متوجّسًا جدّا من سقوط القصر العلوي خلال السبعينيات، وتحوّلِ المغرب إلى النظام الجمهوري، بسبب ظروفه الداخلية المهتزّة، وهذا الأمر لو حصل كان يعني تلقائيّا ونهائياً خروج فرنسا من منطقة شمال غربي إفريقيا تاركة المجال للجزائر كقوّة وحيدة وخارج الهيمنة، لذلك رمت باريس حينها بكل ثقلها في الكواليس القاريّة والدولية للحفاظ على عملائها في بلاط الرباط.
اليوم وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، النظام الملكي يترنّح تحت وطأة مرض محمد السادس وغيابه الكامل عن البلاد، مقابل صراع مراكز القوى على وراثة العرش المغربي وتدخّل اللوبيات الصهيونية، موازاة مع توسّع الاحتقان الشعبي اجتماعيًّا بسبب تدهور ظروف المعيشة، وسياسّيا على خلفية الارتماء في أحضان الكيان الصهيوني، ها هي فرنسا تمدّ، مرة أخرى، يد النجدة معنويًّا ودبلوماسيًّا لخدمها القُدامى، في محاولة يائسة منها، وربّما مناورة خادعة، لإيهامهم بمنح جرعة أمل في مقاومة مسار التاريخ.
لقد سعت فرنسا دائمًا، وبكل الطرق، لإحداث توازن مصطنع بين المغرب والجزائر من الناحية الجغرافية والاقتصادية والسياسيّة، حتى لا تنفرد الجارة الشرقيّة بعوامل القوة الإقليمية، خاصة أنها ظلت عصيّة على التبعيّة والتنازل عن السيادة الوطنية، لذلك لا تزال باريس تطمع في ضمّ الصحراء الغربية عُنوة إلى المغرب، ليستفيد هذا الأخير من مزايا موقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية، حتى يسهل تطويق الجزائر وإضعافها لاحقًا، لا قدَّر الله، بافتعال القلاقل على حدودها الغربيّة، مثلما هي تعاني حاليّا من حرب المخدرات.
في كل الأحوال، ومهما كانت مناورات الفرنسيين الخبثاء، فقد خبرناهم طيلة قرنيْن من الزمن، فإنهم لن يفلحوا في مسعاهم القديم المتجدد، إذ ستبقى الجزائر سيدة في سياساتها الداخلية وشامخة في مواقفها الخارجية، لا تزعزعها الابتزازات الرخيصة من قوم لا عهد لهم ولا ذمَّة في علاقات الدول المحترمة.
ومثلما تزعَّمت الجزائر حركة عدم الانحياز والدفاع عن الشعوب المضطهَدة منذ 1962، ونجحت في الوصول بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، ثم فرضت الاعتراف الدولي بحق شعب جنوب إفريقيا، فإنّها ستواصل، بلا هوادة، مناصرة الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، حتى بناء الدولة المستقلّة، لأن الاستعمار يمثل الماضي في إفريقيا وحرية الشعوب هي المستقبل المحتوم.
أمّا بالنسبة للشعب الصحراوي، فإنّ تذكير فرنسا الآن بمساندتها لأطروحة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية المزعومة، لن يغير في واقع القضية العادلة شيئا، حتى مع كوْن باريس عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي، لأنها كانت دومًا طرفًا معطّلاً للحل السياسي، لذلك لم يكن يومًا رهانُ الصحراويين على عواصم الاستعمار، القديمة منها والحديثة، فهي تعرف كيف يتماهى بعضُها مع بعض في الوقت المناسب، لذلك لن يثني مواقفها الخاذلة من عزيمة الكفاح التحرّري لديهم.
الجديد الوحيد فيما جهرت به فرنسا من استفزاز دبلوماسي يكمن في آفاق علاقتها مع الجزائر، والتي يبدو أن إيمانويل ماكرون قد ناور في البداية إلى أقصى حدّ لكسب موقفها من الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية، فلمّا تمكّن من المرور إلى عهدة ثانية ثم الخلاص من شبح اليمين المتطرِّف، أفصح بوقاحة عن اصطفافه مع الاستعمار المغربي.
هذا الانحراف الخطير يضع “إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة مع فرنسا”، الموقّع شهر أوت 2022، في مهبّ الريح، لأن باريس أجهضت أحد أهمِّ محاوره، وهو “الحوار السياسي”، إذ نصّت وثيقته صراحة على “الارتقاء بمشاورات البلدين السياسية التقليدية، عبر إنشاء مجلس أعلى للتعاون، من أجل تعميق وصياغة الاستجابات الملائمة والمتبادلة للقضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، في روح من الثقة والاحترام المتبادلين”.
فأيّ معنى الآن للحوار السياسي والتشاور والتعاون والثقة في الملفات الإقليمية، عندما تتبجّح باريس بإخراج ورقة استفزازية من الأدراج وإشهارها عشية إعداد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، لتقرير مفصَّل بخصوص العراقيل التي يواجهها من المغرب في الوصول إلى تسوية الملفّ؟
لعلّ وزارة الخارجية قد عبّرت بوضوح عن الموقف الرسمي للدولة الجزائرية، بالتأكيد على استخلاص كافة النتائج والعواقب التي تنجرُّ عن قرار الحكومة الفرنسية، وتحميلها وحدها المسؤولية الكاملة عن ذلك.
وفي ضوء ذلك، لم يعد منتظرًا على الإطلاق تواجد الرئيس عبد المجيد تبون في باريس شهر سبتمبر المقبل، على خلاف ما تمّ ضبطه سابقًا في أجندة رئاسة البلدين عقب عدة تأجيلات، بل إن الرئيس تبون، والذي ترجِّح كل المؤشرات عبوره بسهولة نحو عهدة ثانية، لن يتردّد في تأديب الفرنسيّين في المرحلة المقبلة، بما يقدِّر أنه مناسبٌ لمصلحة بلادنا، لأنّ عقيدته الدبلوماسية مبنيّة على النديّة الوطنيّة ورفض التسامح في المساس بمصالحها الإستراتيجية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!