-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا شعـرةٌ في ذيل أسد ولا بعـرة في ذيل كبش!

أبو جرة سلطاني
  • 1985
  • 8
لا شعـرةٌ في ذيل أسد ولا بعـرة في ذيل كبش!

في أكثر من مقابلةٍ تلفزيونيّة، وفي أكثر من تصريح سياسي، لا يخفي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نيّته من أنّ الذي يهمّه من العراق ليس شعبها ولا سيادتها ولا أمنها وحريتها واستقرارها وحماية أرواح المستضعفين من النساء والولدان.. فكل ذلك شأنٌ عراقي. أما اهتمام ترامب فنفط العراق فحسب فالعراق يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم ـ حسب تصريح ترامب ـ بقيمة ماليّة قدَّرها بـ15 تريليون دولار (15 ألف مليار دولار). وقال: عليهم أن يسدّدوا لأمريكا عشُر هذا المبلغ مقابل تحريرنا لهم من الاستبداد! وهناك شركاء لنا لا بدّ أن يأخذوا حقّهم. فالحكمة القديمة عنده تقول: “من ينتصر يأخذ الغنائم”. وقد انتصرت القوّة على السيادة، فلا قيمة بعد ذلك لحديثٍ عن “سيادة” ولا عن دولة ولا عن شعب.. فالكل هناك ينهب ولا توجد دولة، ونحن حاربنا من أجل النّفط.
كانت كذْبة: الشّرق الأوسط الجديد وشمال إفريقيا، التي بشّر بها دعاة النّظام الدّولي الجديد، أكبر كذبة صدّقها بعض بني أبينا طمعا في الخروج الآمن من جحيم الاستبداد الفردي إلى جنّة النظام الدّيمقراطي القائم على الحريّة، والنّظام الدّستوري، واختيار الحكّام وعزلهم، والمواطنة الكاملة التي يتوازن فيها الحقّ والواجب وينعم فيها الإنسان بالكرامة والعيش الرّغيد. أقول: كذبة كبرى وأشهد على ما أقول خمس حقائق هي ثمرات النّظام العالمي الجديد التي حصدناها هشيما في واقعنا البئيس.
1- تغوّل اليمين في العالم كله تقريبا، كلما صعد الجمهوريون في أمريكا.
2- طغيان القطبيّة الأحاديّة على مُقدّرات الشعوب في غياب توازن القوّى الذي يفترض أن تضمنه روسيا والصين والهند.. والإتحاد الأوربي، لاسيما الدول المالكة للسّلاح النّووي وحقّ النّقض (الفيتو). واكتفاء كثير من الأنظمة بتأمين مصالحها الاقتصاديّة والتّجاريّة..
3 ـ انكماش دور المؤسسات الإقليميّة والجهوية، كالجامعة العربيّة والتعاون الإسلامي.. وتغييب دور المَحاور بكسْر العراق، وإغراق سوريا، وتمييع مصر، و”عصرنة” السّعوديّة، وتعويم اليمن، ومحاصرة الجزائر.. أمام ضغط عالمي قلّص أدوار الدّولة المركزيّة فصارت مهدّدة بالتّفكّك والانقسام.
4 ـ تمدّد الكيان الصهيوني في نسيج الأنظمة العربيّة، وتوسيع مظلّة التطّبيع لتبتلع دول الجوار ولفيفا من دول مجلس التعاون الخليجي.. وإثارة الفوضى في الأنظمة المارقة (السّودان، إيران، باكستان، تركيا..)
5- الدّفع باتّجاه تعقيد الأزمة الشّرق أوسطيّة بتدخّل روسيا وإيران وتركيا على خطّ الأزمتيْن العراقيّة والسّوريّة، وخلْط الأوراق باسم الألوان الإيديولوجيّة (سُنّة، شيعة، أكراد، علويّين، دروز، قبط)..
فكيف نفهم ما يجري أمام أعيننا؟ وما هي الخطّة المكافئة لمخطّطات مسْح الخارطة العربيّة من طريق الكيان الصّهيوني؟ وهل نراهن على روسيا والصين وتركيا، وبعض أصدقائنا في الإتحاد الأوربي لتلافي “السّقطة الحضاريّة” التي إذا حصلت ـ لا سمح الله ـ فإنه لا نهوض بعدها؟ في ظل وضع متأزّم تحكمه الطوائف والعشائر والنّخب المفصولة عن واقع شعوبها.. لن تنفع الإصلاحات التّرقيعيّة في إعادة بناء دولة وطنيّة يمكنها الصّمود طويلا أمام عواصف الموجة الثالثة من خطّة الفوضى الخلاّقة. ومهما اجتهد الماسكون بزمام الأمور، في كل دولة قُطريّة، ليطيلوا من عمر الدّول التي يحكمونها، فإنّ جهودهم سوف تنتهي إلى واحدة من اثنتيْن:
ـ إما الرّكون إلى سياسة الأمر الواقع، والتّسليم بشرعيّة النّظام العالمي الجديد، و”الدّخول في الصفّ” مع المهرولين والتخلّي عن السيادة الوطنيّة.. وهذا خيارٌ انتحاري يجرّ على كل سالك طريقه غضبة الشّعب.
ـ وإما المسارعة إلى عقد “مصالحة وطنيّة” واسعة مع جميع مكوّنات الأمّة، لإعادة بناء جسور الثّقة بين الأشقاء الفرقاء، وتجاوز الألوان الإيديولوجيّة من أجل الوطن، وتوسيع دائرة “المشترَك” لخدمة الأهداف والمقاصد بدل الآراء والأجندات الشخصيّة.
في رؤية الوسطيّة للواقع، لا نراهن على أصدقاء الأمس ولا نسلّم زمام القيادة الفكريّة لمن تُرهبهم التّهديدات، ولا لمن ترغّبهم الهدايا والعطايا. فكثير من التجارب التاريخيّة علّمتنا أنّ الأزمات الكبرى قد تبدأ بجمرة وتنهي بثورة. لكنّ عقالها ليس دائما ممسوكا بأيدي من يفجرها، فقد تفلت منه وتتلقّفها الغوغاء، وتتحوّل من ثورة ضدّ الجور والحيف والفساد.. إلى فتنة دينيّة ومأساة وطنيّة تأكل الأخضر واليابس، ولا تُغمد سيفها حتّى تأكل أبناءها وصنّاعها ومفجّريها. فإذا طال أمدُها فتحت جراحا غائرة يصعب شفاؤها إلاّ بعد جيليْن أو ثلاثة أجيال. فإذا أفاق المتنازعون من غفلتهم، وصحوا من سكرتهم اكتشفوا أنّ الذين سوّلوا لهم الفكرة ورسموا لهم الخطّة، وزيّنوا لهم الطريق، واستسهلوا الصّعب وقرّبوا النّهاية.. لم يفعلوا ذلك من أجل سواد عيونهم ولا إكراما لدينهم ولغتهم وتاريخ أسلافهم المشرّف، ولا رغبة في نشر العدل في أقطارهم.. بل فعلوا ما فعلوا من أجل الاستيلاء على خيرات البلد، وبسط النّفوذ على ما تحت الأرض من نفط وغاز ومعادن، وتشويه ما في العقول والقلوب والنّفوس والألسن من لغةٍ وتاريخ ودين وقيم وشهامة تأبى الظّلم وتكره الاستبداد وتحارب المستعمِر وتنتصر للمستضعَفين في الأرض.
هدف الفوضى الخلاّقة تفكيك الأسرة، وتطويع المدرسة، وتشويه مرجعيات الأمّة، وتقويض المنظومة الفكريّة التي تناهض جميع أشكال الغزو، ولا تقبل بإملاءات النّظام الجديد الذي لا يؤمن بسيادة أي قُطر على نفسه. فنظام العبيد لا يقوم على أرض الأحرار، وإذا قام فلا يعمّر طويلا. فالحرُّ لا يبيع الدّين بالطّين، والخبز الأبيض يصبح زقّوما إذا كان على حساب الكرامة والسّيادة والمبادئ والقيم والأصول.. وإذا كان الاستعمار القديم قد استدرَجَنا إلى سبْخة القوميّة فخضنا في عفوناتها فقوّضنا أركان الخلافة العثمانيّة باسم “القوميّة الطّورانيّة” والذئب الأغْبر، وسوّل لنا أنّ المخرج منها هو “القوميّة العربيّة”، فتصارعنا وضاع الإسلام بين القوميتيْن كجزء من برنامج تقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات صغيرة تنفيذا لمشروع اتفاقيّة “سايكس/بيكو”، فصرنا قريبا من ستّين دوَلة تابعة لملوك الطّوائف. وكانت الخسارة الفادحة: ضياع فلسطين، وزرع كيان غريب في جسم الأمّة العربيّة، وعودة العرب إلى العصر الجاهلي وسياسة الكرّ والفرّ بين داحس والغبراء والأوس والخزرج، وحرب البسوس..
الحلّ هو الحوار.. ثمّ الحوار.. ثمّ الحوار. ففهم الواقع يحتاج إلى حوار صريح معمّق، بفكر وسطي بعيد عن الغلوّ والتطرّف، وبرؤية واسعة تتداخل فيها أبعاد الزّمان والمكان والإنسان والمصالح المتناقضة، بين راغبٍ في إثبات ذاتيّة التاريخ واللغة والجغرافيا والدّين والهويّة.. وباحثٍ عن العيش الرّغيد، في هناء وطمأنينة، ولو كان الثّمن بيْع الوطن وطيّ أشرعة الدّين واللغة والهويّة.. بحجّة أنّ الدّولة الوطنيّة انتهت صلاحيتها، والجنسيّة صارت ذكرى من الماضي، والدّين مسألة شخصيّة.. والوطن هو الأرض كلها؛ فحيثما وُجد رغيدُ عيش فثمّ الوطن! وليس شرطا أن يكون “الوطن الأمّ” هو هويّة العيْنيْن والقدميْن والصّوت، وهو رمز الميلاد والموت. على حدّ قول الشاعر محمود درويش، فأرض الله واسعة، وفي “المواطنة” مندوحة عن الوطن. في زمن نمّطت العولمة طرائق العيش، وخيْرٌ للمرء أن يكون شعرة في ذيل أسد من أن يكون بعرة في ذيل كبش، إذا كانت “الذّيْليّة” قدرًا محتوما على من وُلد في أرض تهدّدها الأسود من خارج حدودها، وتتناطح على احتكار خيراتها كباش يتمّ تسمينها للذّبح وقتَ الحاجة.
* الحلّ هو الحوار.. ثمّ الحوار.. ثمّ الحوار. ففهم الواقع يحتاج إلى حوار صريح معمّق، بفكر وسطي بعيد عن الغلوّ والتطرّف، وبرؤية واسعة تتداخل فيها أبعاد الزّمان والمكان والإنسان والمصالح المتناقضة، بين راغبٍ في إثبات ذاتيّة التاريخ واللغة والجغرافيا والدّين والهويّة.. وباحثٍ عن العيش الرّغيد، في هناء وطمأنينة، ولو كان الثّمن بيْع الوطن وطيّ أشرعة الدّين واللغة والهويّة..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • عبد الصمد

    السلام عليكم..الفوضى الخلاقة من تخطيط المحافظين الجدد،و هؤلاء هم الأحفاد الروحانيين لألكسندر دوئي،لإختصار طرق البحث و التحليل و التخمين و إمضاء العمر في السراب نختصر لكم الطريق لمعرفة لب المعضلة الإنسانية في عصرنا الراهن و معرفة هؤلاء الشياطين حق المعرفة..أنقر علىA Sign for America | The Prophetic Messiah و السلام على من إتبع الهدى٠

  • خالد عبد الحميد

    الكلمات و ما ادراك ما الكلمات و الجمل و ما ادراك ما الجمل و لكن المعنى سطحي محدود عن اي حوار تتحدث عنه هل و الاحنكام الى شرع الله ام الاحتكام الى فلسفات من اعوا بين هوية دينهم و فلسفة غرورهم التي جعلوها مصباحا لظلمتهم و مشكاة لعبورهم حين اقرا ما تكتب رغما عني طبعا افهم حجم ضياعنا فدليل مقالتك و صدقها هو انت فانت اليوم لا تقوى حتى على الوقوف اما مرآة راتك في زمن قريب شيخا يحث الشباب على التمسك بعرى الاسلام شيخ له من الصلاح ما يشهد به الداني و القاصي و اليوم نرى نسخة ابو جرة المشتتة بين سبل ضياع و فلسفة تباع لجرائد تتب لتقرا بدون ادنى نفع و بدون اي رجاء عد الى نسختك القديمة فاالعتيق دائما ممدوح

  • نحن هنا

    جارو الواد ويقول يامحلاهاعومة علي حسب كلامك راك مازلت واقف

  • أحمد الأحمدي

    و مازال البعض يعتقد أن الحل يأتي من ترامب الجمهوري أو كلينتن الديمقراطية . و يدفعون الباهض من مال الشعب المغلوب ليظفر بحب و ميل هذا أو ذاك إلى فراشه . لعنة الله على الطرفين و لعنة الله علينا كشعب جبان لأنا قلنا لموسى اذهب أنت و ربك فقاتلا . و لن ندخلها حتى يخرجوا منها .

  • جزائري أصيل

    بارك الله في شيخنا الفاضل، مقال رائع يحمل نقاطا عدة كل واحدة منها تحتاج إلى مقال مستقل. أتمنى من المسؤولين في بلداننا العربية والإسلامية فتح المجال لمثل هاذه الإطارات الجادة لعرض بضعاعتها ودعم نشاطاتها.

  • mehdi

    الحوار ثم الحوار نعم.
    لكن ما الفائدة من محاورة من أقتنع و أن المصالح الشخصية فوق كل اعتبار...
    البقاء للقوي و الأفضل تلك هي الحقيقة التي يجب العمل للوصول إليها .
    أجدادنا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فنصرهم.
    هذا هو الدرس الذي يجب فهمه...

  • عبد الله

    وتلك الايام نداولها بين الناس.....الامراطورية الرومانية احتلت وهيمنة على العالم القديم ثم في القرون الوسطى هيمن المسلمين واحتلوا الشعوب المجاور للعرب ..وبعدها الامبراطورية العثمانية نفس العمل الذي قام بها غيرهم ..في العصر الحديث همن البريطانيون و الفرنسيون والاسبان على العالم واحتلوا اغلب اراضي العالم....وجاء دور امريكا لتهيمن على العالم...هذه سنة القوي..يفرضها على الضعيف.

  • عامر

    "والخبز الأبيض يصبح زقّوما إذا كان على حساب الكرامة والسّيادة والمبادئ والقيم والأصول" كيف اشبعت خبز وضحيت بالكرامة جاي تتفلسف علينا! أنسيت أنك من هؤلائ الذين حاربوا مع امريكا ضد الإتحاد السوفياتي لكي تصبح امريكا سيدة العالم؟