-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لعنة القارئ الأخير.. النهضة المؤجلة

لعنة القارئ الأخير.. النهضة المؤجلة

كانت الحاجة ملحة لنشر هذا المقال، بعد تتويج الأكاديمي والفيلسوف الجزائري، الدكتور عبدالرزاق بلعقروز، بجائزة الدوحة للكتاب العربي بقطر، عن كتابه”الاتصاف بالتفلسف، التربية الفكرية ومسالك المنهج “، حيث شهد حفل التتويج أيضا، مداخلة قدمتها الفيلسوفة والمفكرة الجزائرية الكبيرة، الدكتورة”نورة بوحناش” ، أستاذة فلسفة القيم بجامعة قسنطينة2، ضمن ثلة مختارة من المتكلمين العرب، مع حضور الدكتور والفيلسوف “محمد جديدي”، كضيف شرف، وهؤلاء شرفوا الجزائر،فكرا وحرفا، بكل فخر واقتدار، لكن السؤال بقي يجلجل بداخلي، لماذا نجهل مفكرينا ولانحتفي بهم ولا نقرأ لهم، لماذا خفت وهج القراءة العميقة لدى الأجيال الجديدة، وما هي انعكاسات ذلك؟

إن الذي يدمن القراءة ويعتادها، يجد، ولاريب، لذة في حمل الكتب وفي ملامسة الورق و شم رائحة المداد؛ فإذا نازعته تصاريف الدهر وشغلته تباريح الحياة عن إتيانها والإقبال عليها، جاهد وكابر حتى يسرق له صفحة أو صفحتين ينتشي بهما عقله ويتغذى على قطوفهما فكره، قبل أن يعاود الابتعاد عن لذائذ الكتب ليكابد أيامه وشواغلها، وكلما طال به زمن الفراق والبعد عن القراءة، كلما وجد ثقلا في نفسه وحسرة شديدة على كل لحظة مضت بلا قراءة ولا سياحة في عقول الحكماء والعلماء، والعقلاء والفقهاء، والمثقفين والأدباء؛ ويستبد به الشوق إلى موائدهم العامرة، فلا يستريح ولا يستكين حتى يأتيها ويتلذذ بما فيها، هاربا من زحمة الحياة والعمل والمسؤوليات.

إنك لو سألت كل من هذه هي حاله، عن جدوى هذا الهوس وجوهر هذه اللذة، لقال لك إنها لذة لو أدركها الكسالى والجهلة لنازعوني عليها بحد السيف.

لطالما قلت في نفسي بأن من أوتي حظا في أن يبقى مشدودا في عمله وحياته إلى الكتب والكتابة، كأنما حيز له شطر من السعادة، وأدرك من النعيم ما لا يدركه غير أمثاله، فالشغف بالقراءة هو ما يطيل أعمارنا الفكرية ويجعلنا يافعين على الدوام وإن هرمنا، وهي حقيقة يثبتها العلم على فكرة، فإذا استشعرت قلة الاهتمام بالكتب وخَفَّتْ لديك حمى التنقيب في مناجم الفكر والمعرفة الدفينة بين دفات الكتب، فأدرك نفسك وتحسس عقلك لربما أصابته الشيخوخة، فإن العقل إذا شاخ أتبعته شيخوخة الجسد.

إن الكثير من صناع التاريخ عُرف عنهم ولعهم الشديد بالقراءة، ففي شبابه مثلا، كان “نابوليون بونابارت” مهووسا بقراءة الكتب، حتى أنه كان يقصد مكتبة كبيرة في باريس بانتظام، وكان آخر كتاب قرأه هو السجل الخاص بفهرست المكتبة، والمفاجأة أنه وجد العديد من الكتب غير مقيدة في السجل فما كان عليه سوى إضافتها بقلم الرصاص، وبسبب خلفيته هذه، أردف حملته العسكرية على مصر بأكثر من مائة عالم جنبا إلى جنب مع العساكر والجنود. أما الخليفة العباسي المأمون، فقد عرف عنه شغفه بالعلم والعلماء ويدنيهم من مجلسه، وكان يقبل على القراءة بشكل كبير، ولم يثنه عن ذلك لا شؤون الخلافة ولا البذخ الذي كان فيه، حتى أنه قال عن نفسه: “إني أحب التنزه في عقول الرجال”، ويقصد قراءة الكتب، وفي هذا وبالنسبة لـ” شهيد الكتب” الجاحظ، فقد قتلته الكتب التي سقطت عليه، لكثرة عددها بالمكتبة التي كان يقضي معظم وقته فيها، وكلنا نعرف وزن هذا الرجل في حقل الأدب وكثرة تصنيفاته ومؤلفاته، التي لازالت إلى اليوم تلقى رواجا من طرف القراء ومتذوقي الأدب العربي الرفيع.

ولا عجب في من يهيم بقراءة كتاب، فبعض الكتاب يكتبون بأسلوب فخم جميل، يجرف الذهن إلى دوحة من البلاغة والجزل، ثم لا يلبث أن يشرب من ينابيع اللغة المتدفقة حتى يطرب و يسكر، فلا يملك بعدها، والحال هكذا، سوى أن يهيم وراء الحروف والمعاني والأفكار التي تحفل بها النصوص، وينتقل إلى عوالم جديدة قَصُر فكره عن العيش فيها، فيحلق حرا في سمائها مرتقيا في عليائها، ويجوب تلالها وسهولها ليشرب ويستزيد، حتى يطفح بالفعل والحركة والحرية التي حرم منها.

هؤلاء الكتاب الباذخون، يمنحون حيوات جديدة لغيرهم بالفعل، ويرشدونهم إلى ملاذات آمنة تحفظ الذوق من الفساد والوعي من النضوب، فالقراءة في جوهرها حياة أو حيوات أخرى نعيشها، وقد سئل صاحب العبقريات، الأديب الأريب الراحل “عباس محمود العقاد”: لماذا نراك تقرأ كثيرا؟ فقال: “لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة هي التي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق”.

لقد قلبت صفحات التاريخ، فما وجدت أحدا من العظماء والمشاهير، الذين تركوا بصماتهم في مختلف الميادين، ولا زالت أسماؤهم تلوكها الألسن إلى اليوم، فما وجدت أحدا منهم اعتلى صهوة المجد إلا عن طريق الغوص في بطون الكتب واكتساب المعارف بجد دون كسل، وقد سُئِل “أرسطو”: كيف تعرف ثقافة الشخص؟ فأجاب: أسأله (كم كتابا قرأ وأي كتاب قرأ).

بالمقابل، هل توجد علاقة بين نوعية الكتب التي تروج وتقرأ داخل مجتمع وبين الرقي الحضاري؟ هل إشاعة وتشجيع الروايات (الرواية العاطفية والخيالية وروايات الرعب التي لا تحمل بذرة فكرية) مقصود و ممنهج، لا سيما في أوساط الشباب واليافعين؟

في البداية يجب أن لا يظن بي الروائيون الظنون، فما سأكتبه هو عرض حال ومساءلة للواقع، فقد وجدت نفسي أطرح هذه الأسئلة، بعد أن تحسست طوفان الانتاجات الروائية التي غزت الساحة الثقافية في الجزائر والدول العربية بشكل مفرط وبدعم سخي من مختلف الأطراف، على حساب الكتاب الفكري والعلمي والفلسفي، فصارت الروايات تهطل علينا كالغيث المنهمر، وتكاثر الروائيون حد التخمة، دون أن ننتقص طبعا من جهودهم، ودون أي حساسية نبديها اتجاه الأدب الروائي الجاد، وأهميته في حياتنا.

الحقيقة تقول أن هناك عزوفا كبيرا من طرف القارئ الجزائري والعربي على الكتب الفكرية والفلسفية التي تحتاج لإعمال العقل وتحريك آلة الوعي والإدراك، وبذل جهد لفهم القضايا الإشكالية المطروحة من طرف كتابها، أو لنقل، تلطفا، بأن هذا النوع من الكتب لا يأتي ضمن تفضيلات القارئ المهمة.

وهذا العزوف للأسف، بالرجوع إلى التاريخ، هو نفسه الذي أدى إلى تراجع التقدم العلمي والفكري للحضارة الإسلامية، خصوصا في العصرين الأيوبي والسلجوقي، حيث شاع التأليف في سير الملوك والنوادر والقصص، وانصرف رهط كبير من الكتاب إلى حشو كتبهم بالأكاذيب لتمجيد حاكم أو سلطان طمعا في ما يصرف لهم من أموال نظير المدح والتمجيد، في حين تراجعت حركة الترجمة وقل الإقبال على كتب الفلسفة والحكمة الإغريقية التي كانت سببا في تطور الفكر والحضارة الإسلامية، رغم أن الفلسفة للمثقف، مهما كان اختصاصه الأكاديمي، بمثابة الفاكهة على مائدة المعارف والعلوم، إذا حُرم حظه منها فقد حُرم خيرا كثيرا، وبدونها يظل هذا المثقف جائعا طوال عمره الفكري و المعرفي، لا يحس بلذة الشبع أبدا.

لعل جزءا غير ضئيل من المسؤولية عن المآلات التي وصلت إليها مجتمعاتنا، يرجع إلى عزوفها عن تحصيل العلوم والمعارف، وبصورة خاصة تخليها عن الفلسفة كعلم يروم الحكمة و يتوسل العقلانية، وإمكانية تعلمها وممارستها في حياتنا اليومية كفن للعيش، فلطالما كان التطور الفكري والحضاري من مخرجات التفلسف وشيوع التفكير المنطقي القائم على قواعد عقلانية بحتة، بدءا من موطن الفلسفة في اليونان القديمة التي أنجبت أعظم الفلاسفة في تاريخ البشرية، إلى الحضارة الإسلامية التي عرفت في عصورها الذهبية ازدهارا للفلسفة وبروز فلاسفة نجحوا في إخراج العقل العربي والإسلامي من قوقعة التقليد والتخلف الفكري، وصاروا مرجعا فيما بعد لفلاسفة الغرب الذين شقوا ظلام أوروبا للعبور الآمن إلى عصر الأنوار، وصولا إلى العصر الحديث الذي تعملقت فيه الفلسفة نظريا بشكل كبير وصار لها ترسبات معرفية هائلة.

الحق أن نخبنا عموما والمشتغلين بالفلسفة على وجه التحديد، جميعهم لم يوفقوا في تبسيط الفلسفة وربطها بحياة الناس اليومية، فلازالت النظرة إليها في الأوساط الشعبية قاصرة، فإما أنها تقود إلى الكفر البواح أو هي ضرب من ضروبه، وإما أنها، في أحسن أحوالها، ترف معرفي تمارسه النخبة المثقفة المتعالية، بينما هي في الأصل ترتبط ارتباطا وثيقا بأخلاقنا وتفكيرنا وممارساتنا اليومية الأخرى، التي تفور بالعنف والكراهية، فهي باعتبارها حب الحكمة، لها القدرة على تأطير سلوك الإنسان بالخير أو الشر، ومعرفة الفرق بينهما، فتعلمنا كيف نقوم بسلوك خيّر ونتجنب سلوكا شريرا، فمن يمارس العنف مثلا مهما كان شكله، لو كان متمكنا من نواميس الفلسفة-المبسطة- وقواعد المنطق لما مارس عنفه، وهكذا.

طبعا الفلسفة تعاني على المستوى العالمي، وإن كنا نحن الأكثر تضررا، بسبب تلكؤ أصحابها في نشرها و فشلهم في تفعيل دورها، وإيجاد مخرج لمأزق الإنسان الغارق في المادية والفاقد لجوهره كإنسان “أخلاقي”، خصوصا بعد أن وصل العلم إلى آفاق بعيدة جدا، وإلا لما كانت الفلسفة – كما يقول الفلاسفة، تبتدئ عندما ينتهي العلم، أي عندما يفقد الإنسان القدرة على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، فهذا في اعتقادي هو العصر المناسب لعودة الفلسفة وبقوة لتحل مشاكل الإنسان الأخلاقية.

الفلسفة في مجتمعاتنا محصورة بين جدران الجامعات وكليات الفلسفة، ودور أصحابها في إشاعة التفكير النقدي في المجتمع محتشم، ولو من خلال تبسيط مفاهيم ونظريات الفلاسفة في الأخلاق والعمل والمعرفة، حتى تكون لصيقة بسلوكياتهم ويومياتهم (فقه الواقع)، عكس ما يلاحظ في الغرب، حيث نجد أن الكثير من الفلاسفة طلقوا أسوار الجامعات وخرجوا لينشروا الفلسفة على مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الجرائد وبرامج الميديا بمختلف أنواعها، فهذا يكتب مقالا يوميا في جريدة عن مباراة في كرة القدم مثلا، ويعطي تحليلا مغلفا بنظرية فلسفية، وذاك يؤسس موقعا إلكترونيا للغرض نفسه، وآخر يظهر بشكل متكرر على شاشات التلفزيون يحلل ويشرح ويشعل عقول المشاهدين بعشرات الأسئلة وعلامات الإستفهام والتحاليل المنطقية والشروح المفيدة للمستجدات.
ما أحوجنا فعلا أن نسترد ملكة التفكير الفلسفي ولذة التفلسف التي رافقت ازدهار حضارتنا في عصور مضت وبهت وهجها، بعد أن أدت إلى بلورة مجتمعات عقلانية منتجة للأفكار فاضت إنتاجاتها على غيرنا من الأمم، حتى أن العالم الفيزيائي “بيير كوري”، اعترته دهشة كبيرة من ثقل التركة العلمية التي خلفها المسلمون في الأندلس، رغم ما اعتراهم من بطش ومذابح عقب محاكم التفتيش، التي أحرقت حتى مكتباتهم وكتبهم، فقال قوله الشهير: ” لدينا ثلاثون كتابا بقيت من الأندلس المسلمة وهذا مكننا من تقسيم الذرة ، ماذا لو بقي النصف مليون كتاب التي أحرقناها من تلك الحضارة! لو لم نحرقها لكنا الآن نسافر بين مجرات الفضاء”؛ فأن تحرق إنسانا أو كتابا، الأمر سيان، لأن الكتاب ليس مجرد أوراق جافة ومداد ميت، فهو في الأصل يضم بين دفتيه روح إنسان وعصارة فكره، إنه حياة أبدية لكاتبه لا تبليها العصور، كما أن إحياء نفس أو إحياء كتاب، سيان أيضا، فمن يحيي كتابا مفيدا هو بمثابة إحياء مئات أو ملايين العقول الجامدة التي تقرأه.

و الحق أننا نقتل فلاسفتنا ومفكرينا وكتابنا مرتين، نقتلهم أحياء وأمواتا؛ فأما قتلهم أحياء فبالتهميش والتهجير وترتيبهم في أدنى الهرم الاجتماعي، برَهنِهم إلى أراذل القوم ليتحكموا في رقابهم وأرزاقهم؛ وأما قتلهم أمواتا فبالصمت الإعلامي الذي طال إنتاجاتهم، والتغييب المقصود عن الفضاء العام، و بتجاهلهم وعدم التعريف بهم لأبناء جلدتهم، فكم من فيلسوف أو مفكر لم تحظ حادثة اغتياله أو مرضه بخمس التغطية التي تحيط بنزلة برد تتعرض لها مغنية مشهورة أو ضحكة راقصة ممشوقة القوام، أو كسر في كاحل لاعب كرة يجيد صنع الفرجة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!