-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا لا نقطع العلاقة مع فرنسا؟

بقلم: د. طهراوي رمضان
  • 1331
  • 0
لماذا لا نقطع العلاقة مع فرنسا؟

لو أستُفتي الشعب الجزائري في موضوع قطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا فالمتوقع أن غالبية ساحقة ستختار القطيعة وبنسبة تقترب من نسبة الغالبية التي اختارت الاستقلال على البقاء تحت المظلة الفرنسية في جويلية 1962. والأسباب التي تدفع جمهرة الجزائريين -على عكس النخب السياسية والفكرية- إلى طلاق فرنسا طلاقا بائنا كثيرة ومنها:

أ. الإرث الاستعماري الدموي الثقيل.

ب. تعريب أجيال الاستقلال، والتلقين الإيديولوجي الممنهج، وتجذّر مشاعر الكراهية لفرنسا عبر مناهج التعليم والإعلام والذاكرة الجماعية.

ت. الانتماء الديني وتباين السياسات وأنماط العيش.

ث. تحالف وتآمر فرنسا الرسمية مع النخب والأقليات الثقافية واللغوية داخل وخارج منظومة السلطة في الجزائر، وحصولها على ملاذات آمنة في الضفة الشمالية للبحر المتوسط.

جـ. الاستغلال الاقتصادي واحتكار الأسواق وتحويل الأموال النظيفة وغير النظيفة.

حـ. التفاوت الاقتصادي والمعيشي بين الضفتين.

خـ. السياسة الخارجية الفرنسية المناوئة والمناقضة للمزاج الشعبي الجزائري في القضايا الكبرى (فلسطين وإفريقيا).

عقبة التاريخ والثورة والثوريين

ارتبطت أقلية من النخبة، ومن الشعب أيضا، في مرحلة الاحتلال فكريا وعاطفيا بفرنسا، فكان منها “الحركى” والمجنَّدون طوعيا والمتعاونون من أصحاب البطاقات البيضاء، والفنانون والأدباء والصحافيون، وأؤلئك هم الذين عارضوا فكرة الاستقلال، وصوّتوا في جويلية 1962 لصالح بقاء الجزائر إقليما فرنسيا خالصا. وبعد الاستقلال انتقلت فئاتٌ كبيرة منهم مع من انتقل من المعمرين والعساكر والأقدام السوداء للعيش في مختلف المدن الفرنسية. في حين استقرّت أعداد كبيرة منهم، ممن لم يستطيعوا الانتقال وراء البحر بالجزائر المستقلة، ومنحتهم سياسات اللين والتسامح الرسمية فُرص الاندماج مع بقية المجتمع الجزائري.

الذي حدث على المستوى الثقافي بعد ذلك يُمثّل ظاهرة فريدة من نوعها؛ فعلى الرغم من عنفوانها الثوري، وتحوُّلها إلى كعبة للثوار، فإن الأغلبية الثورية الرسمية التي تسلّمت السلطة في عهود الرؤساء أحمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد رحمهم الله (1962-1992) سالمت الأقلية الثورية الرسمية وغير الثورية المفرنسة لسانا وثقافة أو التي اصطلح على تسميتها بالتيار الفرنكوفيلي، وأطلقت يدها في قطاعات استراتيجية بالإعلام والإدارة والتربية والاقتصاد. وعليه أضحت شخصياتٌ رسمية مثل بن بلة وبومدين وبن جديد وطالب الإبراهيمي ومولود قاسم ومحمد الصالح يحياوي ومحي الدين عميمور ظواهر صوتية وجُزُرا صغيرة في محيط كبير من الفرنكوفونيين والفرنكوفيليين الثوريين وغير الثوريين.

لقد تمكنت الأقلية من ممارسة استعلاء وترهيب يشبه التنمُّر اللغوي والفكري على الأغلبية، واستطاعت، عبر تحكّمها الكبير في الإدارة والإعلام والتعليم، أن تقلّب المنطق الخلدوني فصار الغالب مولعا بتقليد المغلوب.

كفة الميزان مائلة

بعد مغادرة العسكر وحزم الإداريين والمعمّرين و”الحركى” حقائبهم متوجهين نحو فرنسا عام 1962، احتفظ المستعمِر السابق بامتيازات واتفاقيات لا يُماط عنها اللثام إلا قليلا، منها على سبيل المثال لا الحصر استمرار الوجود العسكري الفرنسي في مطار طفراوي بوهران وقاعدة مرسى الكبير، ومواصلة إجراء التجارب النووية في قلب الصحراء، واستغلال النفط والغاز الجزائريين وتسويقهما من طرف الشركات الفرنسية، وامتياز السوق الفرنسية بحق توريد الحمضيات والمنتجات الزراعية الجزائرية، واستيراد الحبوب عبر الوسطاء الفرنسيين، وبقاء المعلّمين الفرنسيين، وقبل ذلك كله، تجميد بعض محتويات بيان أوّل نوفمبر 1954.

الأغلبية الثورية الرسمية التي تسلّمت السلطة في عهود الرؤساء أحمد بن بلة وهواري بومدين والشاذلي بن جديد رحمهم الله (1962-1992) سالمت الأقلية الثورية الرسمية وغير الثورية المفرنسة لسانا وثقافة أو التي اصطلح على تسميتها بالتيار الفرنكوفيلي، وأطلقت يدها في قطاعات إستراتيجية بالإعلام والإدارة والتربية والاقتصاد.

إنه من الواقعية والعدل أن نعترف بأن جبهة التحرير الوطني قد ورثت بلدا منكوبا، شعبه ضامر البطن، يحتاج إلى كلِّ شيء؛ إلى المأوى والخبز والكساء والقلم… وقد كانت القيادات الفرنسية المتعاقبة، منذ شارل ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وحتى جاك شيراك تعرف هذه الحقائق جيدا، لذلك حرصت على استغلال محتويات اتفاقيات إيفيان، واستخدام ورقة الدمار الاقتصادي الجزائري، واختيار التوقيت المناسب لرمي جزرة الحاجة للعمالة الجزائرية، وقانون جمع العائلات، بالإضافة إلى تمتين الوجود اللغوي والثقافي الفرنسي داخل الجزائر عبر القيادات الثورية الرسمية، وعبر الأقلية الثقافية والإدارية والاقتصادية والإعلامية والفنية النافذة التي سيطرت على المناصب المفتاحية في هذه القطاعات.

وبعد مرور 60 سنة على استقلال الجزائر، فإن كفة فرنسا في الميزان الذي يقيس العلاقات بين البلدين ما زالت ترجِّحُ كفة الجزائر. وحتى أختصر للقارئ الكريم المشهد دعوني أرقّم عناصر الثقل في كفة ميزان كل طرف مقابل الطرف الآخر.

  1. 1. يتموقع الاقتصاد الفرنسي في الرتبة 6 عالميا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة، بحجم يقارب 3 تريليون دولار (3 آلاف مليار دولار)، أما الاقتصاد الجزائري فيحتل الرتبة 57 بحجم يقارب 194 مليار دولار. وبينما يتميز الاقتصاد الفرنسي بالتنوُّع والهيكلة ونشاط القطاع الخاص واستخدام التكنولوجيا وتراجع مؤشرات الفساد، يرزح الاقتصاد الجزائري تحت أثقال المركزية والجمود الإداري ومحدودية المبادرة وسيطرة الدولة وتفشي الفساد.
  2. 2. تبلغ قيمة المبادلات التجارية بين الجزائر وفرنسا حدود 8 مليار دولار سنويا. وبينما تتنوع صادرات فرنسا للجزائر (الخدمات البنكية، النقل، السياحة والفندقة، السيارات، الكهرباء، المواد الغذائية، الأدوية) فإن 90 % من الواردات الفرنسية من الجزائر تتركّز في المحروقات.
  3. 3. فرنسا عضوٌ في الاتحاد الأوروبي، ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبيرة، ومجلس الأمن، وحلف الناتو. في حين تملك الجزائر عضويات أقل استراتيجية كعضويتها في الاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية والأمم المتحدة.
  4. 4. فرنسا دولة نووية، والقوة العسكرية السادسة في العالم. أما الجزائر فهي دولة غير نووية ويحتل جيشها المرتبة 26 عالميا.
  5. 5. تمتلك فرنسا احتياطات طبيعية من الفحم الحجري والحديد والبوكسيت والزنك والأرسنيك والبوتاس، بالإضافة إلى اليورانيوم الذي جمعته من مناطق مختلفة، أما الجزائر فهي تنام على احتياطات عظيمة من المحروقات والحديد واليورانيوم والمعادن الثمينة والفوسفات والنحاس والمانغنيز والزنك وغيرها.
  6. 6. يعيش بفرنسا ما لا يقل عن 3 ملايين من أصول جزائرية، وما يناهز مليون مقيم إقامة غير دائمة أو غير شرعية.
  7. 7. وجود وجوهٍ ورموز مُعارضة انفصالية ودينية على التراب الفرنسي.

بالنظر إلى العناصر السبعة أعلاه تبدو كفة الميزان الإستراتيجي للعلاقات الفرنسية الجزائرية مائلة للطرف الأول، ومن ثمة فالجزائر ليست في وضع يسمح لها في المستقبل القريب والمتوسط باتخاذ قرار قطع العلاقات مع فرنسا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!