لماذا لا نملك لغزّةَ غير الدّعاء؟!

من السّهل أن نجد الأعذار لأنفسنا في خذلان إخواننا في غزّة، ونقول: نحن لا نملك لهم إلا الدّعاء، ثمّ نواصل حياتنا كما هي، لا شيء يتحوّل أو يتغيّر؛ بيوتنا كما هي في ظلمتها وبعدها عن الدّين، بناتنا كما هنّ في لباسهنّ وهمومهنّ وأخلاقهنّ، وأبناؤنا كما هم في عبثهم وطيشهم وتدنّي هممهم وحقارة همومهم. أموالنا لا تزال تنفق في التفاهات وفي المظاهر الفانية. وخصوماتنا لأجل المواريث والسّكنات والأراضي مستمرّة كما كانت!
لا أحد –إلا من رحم الله- حدّثته نفسه فقالت: إخوانك يموتون فداءً للأرض المقدّسة وأنت تخاصم أخاك أو ابن عمّك لأجل آرات من أرض لن تأخذ منها سوى شبر يوسّد فيه بدنك الذي يأكله الدّود؟! لا أحد -إلا من رحم الله- حدّثته نفسه بالتوقّف عن أكل الحرام وهو يرى أطفال غزّة يبكون من الجوع! ولا مسلمة –إلا من رحم الله- قرّرت أن تستر نفسها وهي ترى الأبرياء في غزّة يبكون أنّهم لا يملكون ألبسة تحمي أجسادهم من البرد! لا أحد –إلا من رحم الله- من المسلمين ترك التدخين تضامنا مع غزّة الجائعة المحاصرة.
وعلى مستوى الدّول: لا بلدا مسلما أعلن إعلانا رسميا يقضي بمقاطعة الشركات التي تدعم الصهاينة، ولا بلدا مسلما أعلن حالة التقشّف دعما لغزّة.. كلّ بلاد المسلمين –إلا ما رحم الله- تُشغل شعوبُها بلقمة العيش والرواتب والمآكل والمساكن والسيارات، وبقضايا تافهة وصراعات وهمية تشغل الأمّة بعضها ببعض!
الحقيقة المرّة التي ينبغي أن نجعلها نصب أعيننا ونعصر بها قلوبنا: أنّنا قعدنا عن نصرة إخواننا بأموالنا وأنفسنا بسبب تعلّق قلوبنا بالمال والأولاد، وبسبب ذنوبنا ومعاصينا وغفلتنا: يقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)) (سورة التوبة).
هذه الآية لو كانت قلوبنا حيّة لتقطّعت بها ألما وحسرة.. نحن لسنا معذورين عن ترك الجهاد، إنّما قيّدتنا ذنوبنا ومنعتنا قلوبنا التي أشربت الدّنيا وتعلّقت بها.
سأل رجل صحابيّ رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-: عبد الله بن مسعود -رضي الله عـنه-: ما بالنا لا نستطيع قيام الليل؟! فقال: “أقعدتكم ذنوبكم”، وسئل الحسن البصريّ –رحمه الله-: قد أعجزَنا قيامُ الليل؟ فقال: “قيدتكم خطاياكم”، وقال: “إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل”، وقال الفضيل بن عياض –رحمه الله-: “إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك”.
والذّنوب كما تمنع من قيام الليل، تمنع كذلك من الجهاد في سبيل الله، وتحرم العبد من أن يستعمله الله في نصرة دينه!
الدّنيا الدنية هي التي تعاظمت في نفوسنا وقلوبنا وجعلتنا نخلد إلى الأرض ونعبد أهواءنا ونحبّ العيش، بل ونعيش لأجل بطوننا وشهواتنا.. أجهزتنا الهضمية هي التي طوّقت رقابنا وجعلتنا عبيدا لها، وإذا بحثنا بصدق عن أهمّ سبب جعلنا نضيّع الصّلوات ونتّبع الشّهوات وجدنا أنّه الاهتمام الزّائد بالبطون؛ الأسواق في كلّ مدينة عامرةٌ بالسلع ومزدحمة بالمتسوقين، المحلات في كلّ شارع، والنّاس يحملون الأكياس الممتلئة كلّ يوم، المطاعم ومحلات الوجبات السريعة في كلّ مكان مزدحمة بالآكلين في كلّ وقت، وعمّال النّظافة يشكون إلى الله معاناتهم من أكوام القمامة وبقايا الطّعام التي يحملونها كلّ يوم! أصبح اهتمامنا بالوجبات أكثر من اهتمامنا بالواجبات، وأضحى وقت الطّعام أهمّ من وقت الصّلاة وأهمّ من مواعيدنا وعهودنا. إذا أراد الواحد منّا سفرا فإنّ أوّل ما يفكّر فيه: أين يتناول وجبة الغداء وأين ينزل لوجبة العشاء وأين يحتسي قهوته؟ وربّما لا يخطر بباله أن يفكّر أين يصلّي صلواته؟ حتّى برامج العمل والدّراسة في بلاد المسلمين يُحسب فيها الحساب لوجبة الغداء، ولا يحسب الحساب لصلاة الظّهر!
بالغْنا في الاهتمام ببطوننا حتّى صرنا عبيدا لها، فثقلت أجسادنا واتّقدت شهواتنا وطال نومنا، فضيّعنا الصّلوات، وقست قلوبنا وما عادت تؤثّر فينا المواعظ ولا الجنائز، ولا تحرّكنا صور الأشلاء والدّماء ولا صرخات إخواننا المسلمين في أرض البلاء!
لقد حذرنا النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- من أن نصير عبيدا لبطوننا ودنيانا، ولكنّنا نسينا وصيته ووقعنا فيما حذّرنا منه، قال –عليه الصّلاة والسّلام-: “إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهاد، سلط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم” (أبو داود). وأيّ ذلّ أحطّ من أن نرى سفهاء العالم وأراذله؛ ترامب ونتنياهو وجنودهما، يتفنّنون في تقطيع أوصال إخواننا ونحن لا نحرّك ساكنا؟!
وقال –عليه الصّلاة والسّلام- أيضا: “يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها”، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال: “لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ”.
ربّما سمعنا هذا الحديث عشرات المرات حتى حفظناه، لكنّ المشكلة أنّ كلّ واحد منّا يظنّ أنّه ليس مقصودا وغير معنيّ به، وحتّى من يرى من نفسه أنّه معنيّ به، لا يفكّر في أن يصلح حاله!
حبّ الدّنيا وكراهية الموت: ليس المشكل في أن يعيش العبد دنياه يعمل ويأكل ويشرب ويلبس ويتزوج وينجب ويسكن ويركب، لكنّ المشكل أن يحبّ الدّنيا ويركن إليها ويرضى بها.. وليس المشكل في أن يخاف العبد الموت، ولكنّ المشكل في أن يفرّ من الموت ويتناساه ويتناسى ما بعده، ويتمنّى الخلود في الدّنيا: ((إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)).
حبّ الدّنيا وكراهية الموت: إنّه أصل الدّاء ومصدر البلاء الذي أصابنا وقعد بأنفسنا عن الاستقامة وحمل همّ الدّين، وعن الجهاد والجِلاد والتضحية، بل وجعلَنا نخرس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونجبُن عن قول كلمة الحقّ في وجه بائع مخدّرات فضلا عن أن نقولها في وجه من له مسؤولية أو منصب مرموق!
يُروى أنّ الخليفة الأُمويّ سليمانَ بن عبد الملك دخل المدينة النبويّة، فقال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم أبو حازم سلمة بن دينار، فأرسل إليه، فلما أتاه، سأله سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: “عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة؛ فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب”!
نعم هذا هو أصل البلاء؛ عمرنا دنيانا وخرّبنا آخرتنا، فنحن نكره أن ننتقل من العمران إلى الخراب، نكره أن ينقص شيء من حظوظ دنيانا، لذلك نجبن عن نصرة ديننا وقضايا أمّتنا، ونتعلّل للقعود عن نصرة إخواننا بأعذار شتى؛ نخاف أن تتوقّف رواتبنا، ونخاف أن تنقص أرباح تجاراتنا، ونخاف على أبنائنا أن يتوقّف عنهم الدّلال الذي ربّيناهم عليه، ونخاف أنّنا إن جاهدنا بألسنتنا وأموالنا وأنفسنا أنّ أبناءنا سيقتلهم الجوع! أخلدنا إلى أموالنا وأبنائنا، فعذّبنا الله بها، وصرنا نبيت ونصحو على همومها، ونقف في الصلاة وهمومها تعشعش في قلوبنا وعقولنا!
إنّ أحوالنا لن تصلح ما دمنا لم نُخرج حبّ الدّنيا وكراهية الموت من قلوبنا، وما دمنا ننسى أنّ هذه الدّنيا دار ممرّ وليست دار مستقرّ وأنّ عمرها قصير ومتاعها حقير.. ما دامت الدّنيا عظيمة في عيوننا ثقيلة على أرواحنا وقلوبنا، فلن تصلح أحوالنا، وسنعيش حياتنا ونفني أعمارنا ونحن مع القاعدين ومع الخوالف، نثقل ظاهر الأرض بأجسادنا وباطنها بفضلاتنا.
المرض مستفحل في نفوسنا، والعاقبة ليست حسنة إن استمررنا على هذه الحال: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين)).. لذلك ينبغي أن نسارع بالعلاج، والعلاج ممكن إن نحن صدقنا مع الله أولا ومع أنفسنا ثانيا، وفتحنا أعيننا جيّدا على حقيقة الدّنيا وذكّرنا أنفسنا بأنّ الدنيا فانية ووجودنا فيها مؤقّت، وجميعنا سنرحل عنها؛ سيرحل من ضحّى بدنياه لأجل دينه وأمّته لن ينقص من عمره يوم واحد، وسيرحل من ضحّى بدينه وأمّته من أجل دنياه لن يزيد في عمره يوم واحد.