-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لنقرأ التاريخ بوعي ونقد وإنصاف

بقلم: عابد حميان
  • 468
  • 0
لنقرأ التاريخ بوعي ونقد وإنصاف

إن التعامل مع التاريخ ليس مجرّد استعراض لأحداث مضت أو استدعاء لشخصيات رحلت، بل هو فعلٌ معرفي وأخلاقي مركَّب، يتطلب أدوات علمية ووعيًا أخلاقيًّا حادًّا؛ فحين يُفقد العتاد المعرفي أو تنعدم الحساسية الأخلاقية، يتحوّل التاريخ من جسر نحو النهضة إلى عبء يعطّل التفكير ويشوّه الوعي. من هنا تُطرح الإشكالية: كيف يمكن أن يتحوّل التاريخ من قوة بنّاءة إلى عائق فكري، وما السبيل إلى استعادته كعنصر من عناصر اللحمة الوطنية للنهوض الحضاري؟

لكي نقرأ التاريخ بشكل صحيح، يجب أن نتسلح بأدوات المنهج العلمي، من نقد المصادر إلى فهم السياقات، وتمييز الوقائع عن الأساطير. التاريخ ليس رواية شفوية نتناقلها بعاطفة، بل علمٌ يستند إلى تحليل الأدلة، وفهم التشابك بين العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستحضار المراحل التاريخية والنتائج التي أفرزتها تلك العوامل. إنّ غياب هذا العتاد المعرفي يؤدي إلى قراءات سطحية، غالبًا ما تكون مؤدلجة أو مشوَّهة.

لكنّ المعرفة وحدها لا تكفي؛ إذ لا بد أن تصحبها حساسية أخلاقية في الحكم على الماضي، فكم من قارئٍ للتاريخ اختزل الأحداث والشخصيات في ثنائيات الخير والشر، أو أدان أجيالاً كاملة بمنظور حاضرٍ متعالٍ على السياق. إن الأخلاق تفرض علينا الإنصاف، واحترام خصوصية الزمن الماضي، لا تمجيد الجلّاد ولا تجريم الضحية بغير بيّنة. هنا يظهر الفرق بين المؤرخ الحرّ والكاتب المأجور أو الداعية المتعصّب.

وحين يُقرأ التاريخ بوعي، يصبح مصدر إلهام للأمم، ووقودًا لمشاريع الإصلاح والبناء، نستخرج منه دروس الصبر والتخطيط والتغيير، ونفهم أسباب سقوط الدول وصعودها. أما حين يُستعمل أداةً لتعظيم الهويات الضيقة، أو لتثبيت الكراهية، فإنه يتحوّل إلى قيد على الحاضر، وإلى ماضٍ مشحونٍ لا ينتهي. التاريخ إما أن يكون جسراً إلى المستقبل أو حفرةً نتعثر فيها مراراً.

ولا تقع مسؤولية التعامل مع التاريخ على المؤرخين وحدهم، بل على المثقفين، والإعلاميين، والمدرّسين، وصنّاع السياسات؛ إذ أن لكل منهم دورا في تكوين الوعي الجمعي بالتاريخ، وهم من يملكون مفاتيح تشكيل الوعي الجماعي بالتاريخ، إما عبر التعليم، أو الخطاب الثقافي، أو المنابر العامة.

وإذا غاب الحس النقدي من مناهج التعليم، أو إذا اختُزل الماضي في بضع بطولات رومانسية، فإن الأجيال الجديدة ستعيش على أوهام، وتعيد إنتاج الإخفاقات ذاتها. التاريخ لا يُقدَّس، بل يُفهم ويُعاد تفسيره بوعي ومسؤولية.

إن أدلجة التاريخ تُفرغه من مضمونه العلمي، وتحوّله إلى نص انتقائي، لا يُروى فيه إلا ما يخدم هوى السلطة أو الإيديولوجيا، أو ذاتية المؤرِّخ وعُقده المزمنة ويُطمَس فيه ما لا ينسجم مع الخطاب المهيمن. هكذا نجد أنفسنا أمام كتب مدرسية تُقدِّم صورة مثالية زائفة عن الماضي، أو أمام خطابات إعلامية تغذي الكراهية باسم “الأمجاد التاريخية”، أو حتى أمام نخب أكاديمية تُمجِّد الاستبداد وتبرّره بحجة “الشرعية الثورية”.

وليس أخطر من هذا الأدلجة إلا تساهُلنا إزاءها. فالصمت على التزوير، أو تبريرُه بذريعة “الضرورات الوطنية” أو “حماية الهوية”، هو تفريط في حق الأجيال القادمة على الحقيقة والمعرفة، فالتاريخ حين يُختطف، لا يعود مجرد رواية منحازة، بل يصبح أداة تهديم شاملة للوعي والذاكرة والهوية.

لهذا، فإن مسؤولية النخب ليست فقط في كتابة التاريخ، بل في صيانته من التشويه، وفي غرس ثقافة النقد والمساءلة لدى الأجيال. عليهم أن يُعلِّموا الناس أن الماضي ليس وثنًا يُعبد، ولا صندوقًا مغلقًا، بل مادّة حيّة قابلة للفهم المتجدد، ما دام هذا الفهم يقوم على النزاهة والمنهجية العلمية.

باختصار، يجب أن نحصّن التاريخ من العبث، لا أن نتركه ساحة مفتوحة للمتلاعبين والمروِّجين للكراهية، فالتاريخ ليس أداة قتل، بل سبيل فهم، ويجب أن لا يُستعمل إلا في خدمة الحقيقة، لا في تبرير الإيديولوجيات المميتة.

في نهاية المطاف، ليس التاريخ عبئاً بذاته، بل في طريقة تعاملنا معه؛ فحين نفتقر إلى الأدوات المعرفية، أو نتخلّى عن الإنصاف الأخلاقي، نحوّله إلى سلاحٍ للفرقة أو ملاذٍ للحنين المَرضي. أما حين نقرأه بوعي ونقد وعدل، يصبح بوصلةً نهتدي بها في الحاضر، ونبني بها المستقبل. المطلوب ليس فقط أن نعرف “ماذا حدث”، بل أن نعرف “لماذا حدث” و”كيف نستفيد منه اليوم”.

abedham14@gmail.com

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!