لن تستطيع معي صبرا
مع كلّ هذه الأفضال والآلاء تواضع موسى –عليه السّلام- وخرج باحثا عن “مجمع البحريْن” ينشد علما أرشده الله إليه. وقد كان معه الكتاب المستبين وعارفا بالصّراط المستقيم: ((وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم)) (الصّافات:117- 118)، ولكنْ نفسه تاقت إلى طلب المزيد من العلم، فلما وجد العبد الصّالح قال له بتواضع وأدب وذوق واحترام: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) (الكهف: 66)، وفي هذا المدخل فقه جليل لطالب العلم، ولو كان عالما. فقد حدّد موسى -عليه السّلام- ما يريد تعلّمه من العبد الصّالح في فرع معرفيّ مخصوص، هو كنْهُ الحكمة من الفعل الظّاهر في التّعامل مع حركة الحياة، والرّشاد في تصريف الأمور العامة، فالرّشد والرّشاد والتّرشيد والاسترشاد كلّها تفريعات عن معنى بلوغ مستوى النّضج العقلي والشّرعي والإدراكي لما هو أقوم، فيقال مثلا: هذا شابّ راشد، وهذا قوْل رشيد، وهذا أمر رشيد.. ويقابله الغيّ والغواية والسّفه والجهالة والتّيه والضّلال والعسْف والضرّ. فمن آتاه الله رشده فقد اهتدى.
سأل موسى -عليه السّلام- الخضر علما يعينه على ترشيد مسيرة من بُعث فيهم من بني إسرائيل، فلما سمع مقاله أدرك أنّ علم الرّشاد لا يُطلب درسًا ورواية وإنما يؤخذ هرْسا ودراية. فإتْيان الرّشاد وفهمه لا يُطلب من طريق “فقه الأوراق” وإنما هو “فقه واقع” تمليه حركة الإنسان في الأرض يحتاج إلى رحلة سائحة في ملكوت الله، ويتطلّب صبرا وصمتا وأناة حتّى تكتمل صورة الفعل ويفرغ المعلّم من عرض ما لا يتمّ واجب الفهم إلاّ بالإحاطة به: ((قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) (الكهف: 67)، فهذا الضّرب من التّعليم يقوم على أسس معرفية كبرى: صبْرًا وصمتا وحسْنَ ملاحظة وأدبا واتّباعا.. وكلها أدوات لا تتمّ إلاّ بالخلطة والصّبر وفقه طلب العلم. فطالب العلم -مهما كانت منزلته- يحتاج إلى صبر على من يأخذ عنه العلم، وصحبة معلّمه ولزوم معيّته، وحسْن تعاملٍ مع الظّرف العارض تحت رقابة المدرّب وملاحظته، وترويض النّفس على مرارة تعلّم ما ليس مألوفا؛ فلا يعجل بالسّؤال عن شيء حتى يستكمل الرّشاد دورته في قسميْها النّظري والعملي (التّطبيقي): ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)) (الكهف: 68). فمن كان معلّمًا أو شيخا أو عالما في قومه، أو حتّى نبيّا، وأراد أنْ يزيد إلى علمه علمًا لم يحط به أو لم تُتح له الظّروف لتحصيله -كتعلّم لغة جديدة مثلا- عليه نسيان منزلته؛ فهو -في هذا الظّرف- تلميذ بين يدي شيخه ولو كان “الشّيخ” ابنه كحال آزر مع إبراهيم -عليه السّلام-: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)) (مريم: 43).
العالم عالم في مجاله قبل الاتّباع، أما في مرحلة التّعلّم فمحكوم بشرط التّبعية لمرشده في مجال علم آخر وتابع لمن يتلقّى ما ليس له به علم، فالتّفوّق العلمي يُسقط الرّتب كلّها لفائدة تحقيق مقصد أعلى منها جميعا هو معرفة ما كان مجهولا، والرّشاد في “جزئيّة” لم يحط بها من هو عالم بالكليّات في مجاله. لذلك حدّد موسى -عليه السّلام- طبيعة العلم الذي يريد أخذه عن الخضر -رضي الله عنه- ليكون التّركيز عليها وحدها دون سواها: ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) (الكهف: 66). تمّ الاتّفاق، وحُدّدت الشّروط وتمّ الاتّفاق على “رحلة تدريبيّة” على فقه الحكمة والرّشاد، يتلقّى فيها موسى -عليه السّلام- درسًا لدُنيّا في فقه “إدارة النّوازل” في فضاء مفتوح، وتُرك شأن اختيّار الدّروس التّطبيقيّة لتقدير الخضر، فغاية موسى -عليه السّلام- أخذُ صورة عن هذا العلم، فلم يحدد موضوعه ولم يشرطه؛ فقد كان يريد أخذ “عيّنة” عن المنهج العام في حسْن التّصرف تلقاءَ كلّ أمر طارئ، أو كان يبحث عن “قالب” من العلم اللّدني يقيس عليه ما بين يديْه من شرْعة ومنهاج، أو يخضعه لهما إيجابا وسلبا. هكذا أراد أن يكون هذا اللقاء خلاصة للتّدريب على إدارة الطوارئ بالصّبر على البدايات المفاجئة حتّى تتكشّف خفاياها: ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)) (الكهف: 70).