… لهذا نمقت حضارتهم !
مازلت أذكر يوم الـ19/11/1977م يوم أن أوقف الطلبة الدراسة بتلقائية وثورية متناهية بجامعة عنابة وتحلّقوا بكثافة في ساحة الجامعة الرئيسي حول الأساتذة العرب عموما والفلسطينيين والمصريين على وجه الخصوص لمناقشة الحدث الجلل الذي صعق عالمَ السياسة والمراقبين السياسيين، وصعقنا نحن كطلبة جزائريين مناضلين ثوريين من جيل الاستقلال الذي شاهد في طفولته ويلات الاستعمار وعانى من آثارها..
وما صُعقنا لأجله وأوقفنا الدراسة من أجله هي رحلة العار والذل والخيانة والتآمر والانبطاح التي قام بها الرئيس المصري (محمد أنور السادات. ت 1981م) الخائن وعراّب المشاريع الاستسلامية ونزوله في القدس وتقديم خطابه الاستسلامي الشهير في الكنيست الإسرائيلي عارضا على دولة الصهاينة المجرمين الغاصبين السِّلم مقابل الأرض.
مازلت أذكر كيف تعثرت الدراسة ذلك الأسبوع بسبب الحزن الكبير الذي ران على قلوب مجموع الطلبة بمن فيهم اليساريين منهم بقيادة الطالبة المناضلة لويزة حنون هداها الله، التي كنا نتشاطر معها الموقف الجزائري من فلسطين التي اختزلتها مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة)، والذي كان شعارا معلقا كلافتة في مطار الجزائر الدولي، ونُزعت منه بعد وفاة الراحل هواري بومدين في 28/12/1978م. وتدحرج الشعار سبعمائة كيلومتر وبقي الشعار مرفوعا في بلدية العقلة بولاية تبسة فقط.. والذي مازالت والحمد لله تتبناه الدولة الجزائرية إلى اليوم، وهو موقفٌ تُحترم وتُجل من أجله وطنيا وداخليا وعربيا وإسلاميا وخارجيا أيضا…
ويومها تعرفنا على الكثير من الأساتذة العرب الذين كانوا يدرسون بجامعة عنابة من الفلسطينيين، السوريين، المصريين، السودانيين، العراقيين، الأردنيين، اللبنانيين، والتونسيين، ومنهم كان أستاذنا المفكر المصري محمد حافظ دياب أستاذ علم الاجتماع العامّ والثقافي، اليساري التوجه والرؤية، الذي ظل يناقشنا ويحتوي غضبنا حتى عدنا إلى حجرات الدراسة رويدا رويدا، بسبب نوعية الطلبة الجامعيين المبدئيين والرساليين الثوريين المناضلين يومها، إذ كانت الجامعة تُخرِّجُ الرجال والمناضلين والرساليين الذين يحملون الشهادات العلمية الحقيقية.. والذين رفدوا بخبرتهم ووطنيتهم الجزائر في العقود الثلاثة الماضية.
وازداد ارتباطنا كثيرا بالأستاذ محمد حافظ دياب لسعة ثقافته وعلمه وقدراته وشخصيته الجذابة على الحوار والإقناع والتوجيه والتأثير بالرغم من تباين مرجعياتنا مع مرجعياته اليسارية فالعلمانية، لأن الحكمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضالة المؤمن وهو أحقُّ بها أينما وجدها)) حسب الأثر النبوي الشريف.. ولعل من بين البريق الذي أحاط بشخصيته ليس فقط تميزه المعرفي والعلمي والنفسي والتأثيري والحواري والإقناعي فحسب، بل كان شديد الشبه بالمغني المصري الشهير يومها (عبد الحليم حافظ) المعروف فنيا بـ(العندليب الأسمر)، والذي كان بفنه يخدم الحضارة العربية، إذ كنا نستغرب شبيهه وهو يحاضر ويعلّم ويثقّف ويربّي ويوجّه ويؤثّر.. ومع كل هذا ظللنا نتحلق حوله بعد انتهاء كل محاضرة.. وكنا نستغل محاضراته القيمة في مادة علم الاجتماع العامّ ثم علم الاجتماع الثقافي لتوسيع معارفنا ووعينا ورساليتنا، وكان منهجنا متابعة الحضور لكل الأساتذة الذين يدرِّسوننا أو لا يدرِّسون اختصاصنا في أوقات فراغنا الذي كان محصورا بين المكتبة والمسجد وحضور المحاضرات والتطبيقات المطلوبة والتثقيفية.
ولكم كان شوقنا يزداد إلى الجامعة وإلى أساتذتنا بعد عودتنا من العطلة الشهرية بين السداسيين والتي كانت تُقدَّر بشهر، إذ عدنا شهر فبراير 1978م وحيينا أساتذتنا بكل شوق وتحلّقنا حولهم كعادتنا بعد المحاضرة -التي كانت مدتها ساعتين إلاّ ربعا ولا نملّ فيها مطلقا- في ساحة الجامعة، نستفسر ونسأل حتى أخبرنا يومها عن رحلته إلى أمريكا، واسترسل يصف لنا مجريات رحلته نحو بلاد العام سام التي دامت سبعة عشر يوما، وشفعها بنشر يومياته تلك بسلسلة مقالات دوّنَ فيها يوميات رحلته شهر يناير 1978م، وعاد فنشر سلسلة مقالات في مجلة “المجاهد الأسبوعي” الجزائرية الناطقة باسم حزب جبهة التحرير الوطني والدولة الجزائرية معا يومها في سبع عشرة حلقة وعنوانها (أبصق على حضاراتكم)..
وتجيء قيمة تلك الحلقات يومها في ظل عالم إعلامي واتصالي متقطع الأوصال ومتواضع وسيليًّا وإعلاميا وتواصليا، على العكس من زماننا هذا اليوم الموسوم بعصر العولمة الإلكترونية، المتسم بالطوفان الإعلامي والاتصالي الشبكي الإلكتروني البرقي اللاتزامني المذهل.. إذ كانت الجرائد والمجلات والكتب والمحاضرات والملتقيات واللقاءات والتجمعات هي المنبر الوحيد الذي يشاهد القارىء من خلاله الأحداث العالمية الآنية والسريعة.. وكان علينا أن ننتظر صدور الجريدة أو المجلة حتى نطَّلع على الجديد الصادر فيها، وتابعناها حلقة حلقة حتى قررنا نحن الطلبة أن نؤمن بتهالك حضارتهم، ولاسيما أنها تأتي من مفكر يساري علماني المرجعية والمنطلق والتصور، فيما نحن المسلمين أبناء الحركة الإسلامية نفاصلهم بعقيدة الإسلام وتعاليمه الربانية الإيمانية الساطعة، التي تحدد موقفها القطعي من اليهود الغاصبين والنصارى المحاربين المستعمِرين وغيرهم من قوى الشر والجبروت والمعادين..
وقد بدأ رحمه الله يحدِّثنا عن مدينة نيويورك التي تبدو شابة في مبانيها ولامعة في عمرانها وشوارعها ومتاجرها وأضوائها.. ساحرة بمنشآتها وأسواقها ووسائل الرفاهية والتسلية والفجور فيها.. والتي تدعو إلى الشهوة صراحة، وتفجّر الغرائز مباشرة، وتعمل على تأجيج قوى النفس لاقتراف الرذيلة والعبّ المحموم من مباهجها المحرَّمة الساحرة.. وأرسى معالم وأسس ومرجعيات هذه الحضارة من خلال معاينته الحياتية والواقعية اليومية لها، فوصف أسسها الحضارية بأنها:
1– حضارة القتل وإراقة الدماء؛ فقد شاهد في تلك الأيام ارتفاع معدلات الجريمة والقتل والاغتيالات العلنية في وضح النهار.. وكانت الاغتيالات تتم بصمت في شوارع نيويورك ويسقط القتيل المغدور من دون أن يلتفت إليه أحد والكل يسير لاهثا باحثا عن لقمة عيشه، فقد روى أنه شاهد عملية اغتيال بعينه فقد مرّ رجل يتأبط جريدة، واقترب من رجل وأخرج من الجريدة بسرعة فائقة مسدسا وصرع به غريمه، وركض في الشوارع المكتظة بالمثقلين بهموم المدنية الآثمة.
ولا غرابة في ذلك أبدا، فدولة أمريكا دولة دموية قامت على إبادة شعوب وقبائل الهنود الحمر وتعدادهم ثمانين مليونا.. لم يتبقّ منهم سوى أربعة ملايين. والأمريكيون أسسوا كيانهم على القتل والإبادة العرقية والتصفية المطلقة لكل من عاداهم، وظلوا كذلك وجرائمهم لا تتوقف عند إبادة الهنود الحمر، فقد أبادوا الملايين من الشعوب التالية: الياباني والألماني والإيطالي والكوري والكوبي والفيتنامي والأفغاني والعراقي والصومالي واليمني والسوري والفلسطيني.. فهم شعب ودولة القتل والإبادة.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم لأنها حضارة القتل.
2– حضارة العبث بحقوق الإنسان، بعد أن ألقوا القنبلتين النوويتين على اليابان (هيروشيما وناغازاكي) وانتصروا لأوروبا الاستعمارية الصليبية الحاقدة، وأعانوا اليهود الغاصبين لإقامة دولتهم المزعومة على أرض فلسطين بمعية الإنجليز المستعمِرين يوم 15/05/1948م، أنشأوا منظمة الأمم المتحدة، وبعثوا بالبيان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10/12/1948م وادّعوا حماية حقوق الإنسان، والغريب أن ملايين العرب والمسلمين وغيرهم من شعوب العالم الثالث قد راحوا ضحايا هؤلاء الكذابين العابثين بحقوق الإنسان.. فقتلوا الأطفال والنساء ودمروا كل شيء.. فهي حضارة العبث بحقوق الإنسان، والتمييز العنصري.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم لأنها حضارة الاحتقار والميز العنصري.
3 – حضارة الاستعباد والميز العنصري، بما اقترفته من جرائم الاستعباد وشرعنة العبودية التي نجم عنها استعباد سكان إفريقيا وتشجيع تجارة الرقيق ونقل ملايين من الأفارقة عبر رحلات موت وعذاب وألم في صقيع المحيط الأطلسي، وبيع العبيد واستخدامهم في خدمة المدنية الغربية التي قامت على عرق ودموع وآهات وعذابات الملايين من الأفارقة، الذين ناضلوا طيلة ثلاثة قرون حتى نالوا حريتهم ومساواتهم مع الفرد الأوربي الأبيض المتعجرف الذي يحتقر الناس جميعا عدا عرقه الآري.. وقد حفظت لنا الكثير من الروايات والقصص والكتابات الأدبية قصة الرق والعبودية الدامية.. فهي حضارة سحق واستعباد الآخرين.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم لأنها حضارة استعباد واذلال الآخرين.
سرقت فرنسا ميزانية الدولة الجزائرية المقدَّرة يومها بحمولة أكير من ثلاثمائة بغل من الذهب والفضة.. وظلوا يسرقون ثروات وخيرات الشعوب المستعمَرة حتى بعد استقلالها بواسطة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والبورصات العالمية.. ولذا فهي حضارة السرقة واللصوصية والغاب واستغلال الآخرين.
4– حضارة السرقة والغاب والأقوى، إن ثراء أمريكا اليوم متأتٍّ من سرقتها ذهبَ الأمم وجميع سكان الكرة الأرضية أثناء الحرب العالمية الثانية بحجة حمايته من النازيين، وبعد الحرب طبعت لهم أوراق الدولار وأمرتهم أن يغلقوا أفواههم، وهي كبريطانيا وفرنسا وهوندا وإسبانيا والبرتغال المستعمِرين المستغلين الناهبين لثروات الأمم والشعوب.. فقد سرقت فرنسا ميزانية الدولة الجزائرية المقدَّرة يومها بحمولة أكير من ثلاثمائة بغل من الذهب والفضة.. وظلوا يسرقون ثروات وخيرات الشعوب المستعمَرة حتى بعد استقلالها بواسطة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والبورصات العالمية.. ولذا فهي حضارة السرقة واللصوصية والغاب واستغلال الآخرين.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم.
5– حضارة الاغتيالات والتصفيات، فيدُ قادة أمريكا ملوَّثة بالتآمر والكيد والمؤامرات واغتيال الرجال الشرفاء والمناضلين، فكم من زعيم أو مناضل أو قائد مدافع أو مناضل عن بلاده إلَّا وقتلوه، فهذان زعيمان أسودان مناهضان للميز العنصري (مارتن لوثر كينغ) و(مالكوم إكس) قاموا باغتيالهما، وسبق لهم أن اغتالوا الرئيس الأمريكي (جون كينيدي) لأنه كاثوليكي جاء ليحكم البروتستانت.. وهذا حاكم بنما (مانوييل نورييغا) هاجموا بلاده واعتقلوه.. وهم المسؤولون عن الكثير من الاغتيالات التي حصلت في العالم. وهي حضارة الاغتيالات والتصفيات والغاب.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم.
6- حضارة السدومية واللوطية والزنا والجندر والمخدرات والمشردين والاغتصاب والإباحية والوشم والعري والسجون، حيث البهيمية هي الثقافة السائدة في الحياة.. وما عليك إلاّ أن تنظر وتشخِّص وتصف حال مجموعات المتروكين في الشوارع (الهيبز والشارلستون والهوليغنز) وغيرهم من ملايين المشردين والمدمنين والمخدرين والضائعين والمتروكين في الشوارع والطرقات ومجموعات الدراجات النارية.. إنها حضارة قوم لوط ومدينتي عمورة وسدوم الهالكتين.. ولذا فهي حضارة البهيمية المطلقة، ولهذا فأنا أبصق على حضارتكم..
أمريكا دولة دموية قامت على إبادة شعوب وقبائل الهنود الحمر وتعدادهم ثمانين مليونا.. لم يتبقّ منهم سوى أربعة ملايين. الأمريكيون أسسوا كيانهم على القتل والإبادة العرقية والتصفية المطلقة لكل من عاداهم، وظلوا كذلك وجرائمهم لا تتوقف عند إبادة الهنود الحمر، فقد أبادوا الملايين من الشعوب التالية: الياباني والألماني والإيطالي والكوري والكوبي والفيتنامي والأفغاني والعراقي والصومالي واليمني والسوري والفلسطيني.. لذا فأنا أبصق على حضارتكم لأنها حضارة القتل.
7– حضارة الدعايات الكاذبة والإعلام المضلل والإثم والعدوان والقهر والبغي والعنف والرذيلة والفسق والفجور والابتزاز والاستغلال، وهم يفعلون هذا مع سائر من يرضخ ويخضع لهم.. إنها حضارة الرذائل كلها فهي مجمع الرذائل كلها.. ولذا فأنا أبصق على حضارتكم.
والسؤال الأخير: ماذا بقي لكم لتقدّموه للعالم أيها المفلسون قيما وأخلاقيا ودينيا ومعرفيا وفكريا وفلسفيا وروحيا؟ لم يبق لهذه المدنية ما تقدمه للبشرية أكثر مما قدَّمته، وهي آيلة للسقوط، ولعل اندفاعها الأرعن مع حفنة اليهود وقوة الغرب الضاربة يسير بهم نحو هاوية السقوط، وهو ما وعته أمم الأرض.. وأعتذر إلى أستاذي رحمه الله لو قلت (أنا أبصق على مدنيتكم وهمجيتكم).. ولينصرن الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز.