ماذا بعد؟

تركت الأزمة المُميتة التي عرفتها البلاد طيلة التّسعينيات آثارا مدمِّرة على الدولة والأمّة الجزائرية، فقد هدّدت سيادتها بالانتقاص ووحدتها بالتفرقة، ودينها بالتّشكيك والابتداع.
ولولا جهود الشّرفاء والوطنيين المصلحين، ودعاة السلم والعاملين على نشره والتّمكين له لما توقف النّزفُ الدموي الرّهيب الذي عشناه كجزائريين داخل البلاد لأنّه لا وطن لنا سواه حتى عادت البلاد إلى السكينة والأمن الذي نعيشه اليوم.
لكنّ آثار هذه المحنة القاتلة ما زالت تحتاج إلى علاجات متعددة على مستويات أخرى يأتي على رأسها وضع البلاد على سكة التنمية الشاملة المُنتِجة للمواطن الصالحِ المُنتِج للمعرفة والثروة، والمُمَكِّن للحضارة بأبعادها الإنسانية.
هذه الغاية الكبرى مازالت ضبابية في أذهان وبرامج القائمين على تأطير المجتمع الجزائري الرسمي والشعبي.
تكمُن الأولوية، باعتقادي، في إعطاء هذا الموضوع أهمّية قصوى، واهتمام عاجل وجِدّي حتى لا يتمدّد هذا الداء في نخر جسد أمتنا فيجعلها -لا قدّر الله- أثرا بعد عين.
ومن آثار هذه النّازلة المُميتة ما يلي:
أولا: الانتقاص من مكانة القدوة في المجتمع، وقد امتدّ هذا الداء ليصل إلى العائلات والأُسر بعد أن أصاب المجتمع في قياداته العلمية، والاجتماعية، والثّقافية، والأمنية، والسياسية، واهتزّت الثّقة فيهم بدعوى “المساواة” أحيانا وبذرائع أخرى متعددّة لا حكم فيها إلّا للأهواء والجهل والانحراف والأنانية وعبادة الهوى.
ومن آثارها تدنّي منسوب الثّقة في المُعلِّم والإمام والقاضي والطبيب والمسؤول ليصل الأمر إلى مكانة الأب وكبير العائلة وأعيان المجتمع، إذ أصبح تأثير هؤلاء محدودا للغاية غالبا، ومنعدما في أحايين كثيرة.
ثانيا: تدنّي، بل وسقوط قيمة العمل وطلب العلم، واعتبار أنّ أقل الناس عملا وأكثرهم كسبا علامة فطنة وتمكين، وأنّ طلب العلم لا يُفضي إلّا لضياع الوقت ويورِّث الفقر والفاقة، وأنّ الكسب من دون علم مُتاحٌ وميسور.
والحقيقة في عالم اليوم تكشِف شيئا آخر، ذلك أنّ العالم المُتقدِّم الذي نودُّ اللّحاق بركبه يعتبر أنّ اقتصاد المعرفة هو الأوْلى بالاهتمام والرّعاية، وأن لا قيمة للإنسان إلّا بما يقدّمه من إنتاج معرفي.
ثالثا: ضرورة البناء العمودي للدولة، أي العمل على أن تكون صناعة القرار فيها نِتاج رؤية وتصوّر محدّد الأهداف، بعيد المدى، إذ يستوعب كل الأنشطة على المستوى السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والأمني، وتصبّ جميعا في تعزيز مكان الدولة ومركزها بين الأمم بعيدا عن الشخصانية، والمُناسباتية، وأبعد ما تكون عن خدمة المصالح الآنية والذّاتية.
رابعا: إيلاء قطاع التربية والتعليم أولوية قصوى من حيث البرامج، والتّأطير، والتّجهيز إذ تكون مُخرجاته المواطنَ الصّالح، والإطار الكفء والأمين، والتخطيط المبني على العلم الصحيح والتربية الصالحة والولاء الثابت.
وإعطاء أهمية خاصة ودائمة للجانب المعاشي الذي يأمن فيه المواطن على صحته، وسكنه، وعمله، وأمنه.
إنّ تنظيم الدولة بجدّية وصرامة على المستوى الأفقي مع المستوى العمودي آنفِ الذكر تُشكِّل دعامة كبرى للاستقرار الاجتماعي العامّ الضّامن الأساس للتنمية الشاملة المُستدامة.
بمثل هذه الأعمال يجب أن نحتفل بمناسباتنا الوطنية بعيدا عن التهريج والتصنُّع والتزلُّف لنكون أهلا لصيانة أمانة الشهداء الخالدة.