-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا بعد كأس إفريقيا؟

ماذا بعد كأس إفريقيا؟
ح.م

إذا كانت مقولة “إنّ التاريخ يعيد نفسه” متنازعا في صحتها كقانون تاريخي، بل إنّ البعض يعتبر الفيلسوف الكبير هيغل المنسوبة إليه هو من ألدّ أعدائها، فإنها قد ثبُتت عمليّا في بلادنا، ولو صدفة، بتتويج الجزائريين بالكأس الإفريقيّة لكرة القدم في سياقين متشابهين، من حيث الظروف السياسيّة العامّة.

عام 1990، وفي ظل الانفتاح الذي أعقب أحداث أكتوبر 88، ظفر المنتخب الجزائري بأوّل نجمة كرويّة إفريقيّة، بينما كانت البلاد تعيش ذروتها القصوى في الحريات العامّة، السياسية والنقابية والإعلاميّة، ويتطلع شعبُها بشوق إلى استكمال مشروع دولة لا يزال بنيانُها الموروث عن الاستعمار هشًّا، بعد ثلاثة عقود من جلائه العسكري.

اليوم، وفي مناخ ثوري كسر فيه الجزائريون بطريقة حضاريّة مبهرة قيود الفساد والاستبداد، تتكرّر فرحة الشعب العارمة بنصر رياضي في عام حاسم، ما أضفى عليه نكهة سياسيّة وأبعادا مهمّة في اتجاه المستقبل.

إنّ إحراز الجزائر لبطولتين قاريّتين في ظروف متشابهة، من حيث الأجواء المشبعة بنسائم الحرية، والمفعمة ببشائر الأمل في غد أفضل، يؤشر، ولو رمزيّا، على قيمة التحرّر المعنوي والنفسي وأهميته الدافعة في صناعة التفوّق والإبداع، فتأتي الانتصارات متوالية في كافة الميادين، ويعضُها يكمل بعضا في دفع اليأس وشحن الهمم وتقوية العزائم على التحلّي بالإرادة الصلبة، لتحقيق باقي الآمال المنشودة في بلوغ نصر شامل، ينقل بلادنا إلى مصافّ الدول المتقدّمة على طريق الديمقراطية والتنمية.

لا شكّ في أنّ تلك الأفراح الهستيريّة في الشارع الجزائري بفوز المنتخَب الكروي، بعد تألق المدرِّب جمال بلماضي، والذي خلف ناخبًا فاشلاً ومفروضًا من الأعلى، تحمل دلالة قويّة إلى القيادة السياسيّة بضرورة تحرير الشعب من كل الكوابح التي تحول دونه في تحقيق النجاح، وأنّ عليها بالمقابل، تمكينه من الإرادة الحرّة في الاختيار الانتخابي، حتى تحظى السلطة العليا بشرعيّة كاملة تسندها في تنفيذ السياسات والإصلاحات وتلبية المطالب والانشغالات، ثمّ تمارس الحكم بكلّ سيادة بعيدا عن المساومات الإقليمية والابتزاز الدولي، لأنها مسنودة بجبهة داخلية موحّدة.

يجب أن تصل تلك الرسالة العاجلة بكل وضوح إلى السلطة وأن تقرأها في الاتجاه الصحيح والوقت المناسب دون تأخر، لأنّ الرهان نحو الانتقال الديمقراطي بكل تجلياته ومقتضياته صار حتميّة تاريخيّة لأجيال ترعرعت أشواقها في عالم تحدّه معالم القرية الصغيرة، فقدت فيها الحدود الجغرافيّة مفهومها التقليدي.

سيكون من الخطأ في التقدير لو تراهن السلطة عكسيّا على استغلال الحدث الكروي لتنويم الشعب بنشوةٍ عابرة، فقد حاولت كسر الحاجز مع الجزائريين الذين حاصروها منذ 22 فبراير، من خلال التجنّد الرسمي في نصب الشاشات العملاقة لمشاهدة المباريات، ثم حشد الجماهير إلى القاهرة، إلى ترتيب مراسيم الاحتفالات الشعبية بالكأس في شوارع العاصمة، لكنّ ذلك لن ينطلي على أحد، لأنّ ما قامت به السلطات العموميّة هو من صميم واجبات الدولة والإدارة العامّة، ولا يمكن أن يصبح مزيّة تُوظَّف سياسيّا لكسب ودٍّ مفقود، لأنَّ خروج ملايين الجزائريين في جمعة الثامن مارس الفائت كان لأجل التغيير الشامل للنظام، ولا يزالون متمسّكين برحيل بقاياه قبل تدشين عهدٍ جديد، ولن يفلح هؤلاء اليوم في إلهائه بفرحة كرة، على حساب كرامة وحريّة كابد في سبيلها أمدا طويلاً.

كما أنّ على تلك الجماهير الغفيرة التي تدفقت في صورة الشلال البشري على ساحات العاصمة، لتشهد الاحتفالات الكرويّة، أن تواصل حركتها بنفس الإصرار والإقبال في الجُمعات القادمة، لنستكمل الفرحة الكبرى بدخول العصر الحديث الذي لا مكان فيه ولا مستقبل سوى لدول الحق والقانون، لأنها وحدها التي تفجِّر المواهب وتُحرِّر المبادرات وتُبرز الكفاءات وتحفظ الأمانات وتجسِّد الطموحات، في كنف الشفافية والتنافس والعدالة والمساواة، دون محاباة ولا محسوبيّة ولا تعسّف ولا تسلط ولا إقصاء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • صالح بوقدير

    الكرة في مرمى الحراك فإما ان يكمل _ولا خيار للسلطة_أو يكتفي فتعود الحالة كماكانت أو أسوأ قال الشاعر: اذاغامرت في شرف مروم فلا تقعد يما دون النجود فلا عودة لنكسة التسعينات فالشعب هو من يصنع التاريخ وليس التاريخ هو من يصنع الشعب .