ماذا خسرت الجزائر بسقوط الشاذلي؟
للمرة الخامسة والعشرين، تعود ذكرى رحيل الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد عن السلطة ليلة 11 جانفي 1992، بينما تبقى ملابسات مغادرة الحكم حتى الآن من أسرار الدولة المسكوت عنها.
ولأنّنا لا نملك الإجابة الشافية، ولم تعد مهمة كثيرا بعد ربع قرن من التأسيس لواقع مغاير، فإنّ الأوْلى هو طرح الإشكالية بصيغة أخرى: ماذا خسرت الجزائر، كبلد في حالة انتقال شامل وقتها، بسقوط الشاذلي بن جديد من الرئاسة؟
العقيد الذي جاء به الرفاق لخلافة الرئيس هواري بومدين شتاء 1979، ظهر لصقور السلطة آنذاك أنه رجلٌ طيّع وقابل للتشكيل، وبالتالي فهو المطيّة لتمرير أفكارهم ومصالحهم، لكنّ الرجل الهادئ أبان عن وجه آخر بمرور الزمن، وحاول فرض طريقةٍ ورؤية مختلفة في الحكم، عازمًا، وإنْ بشكل متدرج، عن تقمّص دور “غورباتشوف” لتجسيد الإصلاحات الاقتصادية والسياسية منذ منتصف الثمانينات، حتى وصل الأمر إلى إعلان الانفتاح الديمقراطي والتعددي مع دستور 23 فيفري 1989، على وقع الأحداث الكبرى التي هزّت الجزائر في 5 أكتوبر 1988.
لقد آمن “بن جديد” صادقًا بضرورة الانتقال إلى مرحلة جديدة، تواكب فيها الجزائر التحوُّلات العالميَّة مع إرهاصات سقوط “جدار برلين”، ويُفتح خلالها المجالُ واسعا لممارسة كافة الحريات، لإنهاء العلاقة مع الأحاديّة البالية، لكن الفكر الديمقراطي للرئيس لم يكن محلّ قبول لدى المحافظين، أو بالأحرى المنتفعين من غلق الساحة السياسيّة باسم “الشرعية الثوريّة”، ولا يزالون إلى اليوم يعتبرون خطوة بن جديد “مؤامرة كونيّة ضدّ مكتسبات الثورة”، مع أنّ الجزائر تأخرت حينها 27 سنة في تنفيذ بيان أول نوفمبر!
ما أقدم عليه الرئيس بكل شجاعة ومسؤوليّة، وقع استغلاله من طرف فريقين متعطشين ومستعجلين في بلوغ السلطة، حيث أنّ كثيرين من محيط الرئيس نفسه، ومنْ وضع فيهم الثقة لتحقيق الإصلاحات التي آمن بها، حاولوا السطو على نتائجها، من خلال المناورة مع كل الأطراف، والتخطيط للاستيلاء على عرش الرئيس، بعدما تراءى لهم أنه مستقيلٌ معنويّا من الحكم بتعبير سيد أحمد غزالي، وهي الفرصة السانحة للانقضاض وتقاسم السلطة مع الأقوياء في أي موقع.
وفي مقابل هؤلاء، لم يدرك الإسلاميون الذين أعمتهم الجماهير الغفيرة في الشوارع عن تبصّر نهاية الطريق الملغّم، مثلما أصمّ آذانهم هديرُ الأنصار عن سماع الحكمة، ليمضُوا بكل عنفوان وتهوّر، في طلب رأس الشاذلي، تحت شعارهم الشهير “يسقط مسمار جحا”، دون أن يتحسّسوا انهيار السقف على الجميع!
حينما أضحى الرئيس مُحاصَرا بين فكّي كماشة، لا ظهير يسنده في دهاليز الحكم ولا بين جموع الغاضبين من سياسته، برز فريقٌ ثالث، طالما كان يتربّص بالسلطة منذ عهد “لاكوست”، ليجد الطريق معبّدا في الصعود إلى هرم الحكم، باسم “حماية الجمهوريّة” و”صدّ الأصوليّة”، وبذلك غادر الرئيس الشاذلي وسقط البرلمان المرتقَب، لتدخل البلاد نفق الفتنة الهوجاء.
جراح المأساة لا تزال نازفة، لكن أسئلة التاريخ ستلاحق كل المتسببين في إجهاض المسار الديمقراطي، والأسوأ هو تلك الفاتورة الباهظة من الأرواح والممتلكات، من المغامرين والمتهوّرين والمهلّلين، لم تكسب الجزائر بحماقاتهم شيئا غير الدماء والدموع، أما الرئيس بن جديد فقد كتب القدر أن يرحل طاهر اليد واللسان.