ماذا قدّمنا في شطره الأوّل؟

عند مغيب شمس يوم أمس السّبت، انقضى الشّطر الأوّل من شهرنا الفضيل، ومضت خمس عشرة ليلة وخمسة عشر يوما غالية من أيام ضيفنا العزيز! فلله ما أسرع مضيَّ أيامك يا رمضان! قبل أيام كنّا نتحدّث عن استقبالك، وها نحن الآن نتحدّث عن انقضاء شطرك الأوّل، وما هي إلا أيام –إن طالت بنا الأعمار- حتّى نتحدّث عن عشرك الأواخر، ثمّ عن وداعك!
لعلّه ليس أنفع لنا في هذا الوقت من أن نحاسب أنفسنا ما الذي قدّمناه في النّصف الأوّل من رمضان وما الذي أخّرناه؟ ما الذي تغيّر في حياتنا؟ ما الذي تبدّل في أحوالنا وعاداتنا؟ هل وجدنا أثرا للصيام في قلوبنا وأرواحنا؟ هل أصبحنا أكثر تقوى لله واستشعارا لرقابته؟ هل أصبحنا أكثر حرصا على إقامة فرائضه ولزوم حدوده.
كم منّا من كان يضيّع الصّلاة فتاب إلى الله وتصالح مع قرّة عيون المؤمنين وأصبح يصلّيها في أوقاتها لا يؤخّر صلاة منها؟ كم منّا من كان هاجرا للقرآن، تاب وتصالح مع كلام الحنّان المنّان، وأصبح يتلوه بالليل والنّهار، وقد جاوز في المصحف شطره وربّما ختمه مرّة وأكثر؟ كم من شابّ كان يأوي إلى الأوكار والزّوايا المظلمة، تاب وأناب وأمسى المسجد وجهته وملاذه وأنسه؟ كم من مسلمة كانت لا همّ لها إلا ما تلبس وتكسب، صلح حالها في هذا النّصف من رمضان وأضحت تهتمّ بصلاتها وحجابها وقرآن ربّها؟ كم من عبد كان يطلق بصره بالنّظر إلى ما حرّم الله في الشارع والهاتف، كبح جماح عينه وأدّب نفسه في أيام رمضان، وأصبح لا ينظر ببصره إلى الحرام خوفا من الله وخوفا على صيامه؟ كم من عبد كان لسانه لا يفتر عن غيبة النّاس، تاب في هذه الأيام وأصبح مشغولا بعيوب نفسه عن عيوب عباد الله؟
هذه الأيام التي تفصل بين النّصف والعشر الأواخر من رمضان، مناسبة لأن تكون أيام محاسبة وإعادة شحن للنفوس حتى تستعدّ لأيام الهبات والعطايا.. إنّنا لا نريد أن تفتر منّا الهمم وتخبو العزائم، فلا تأتي العشر الأواخر إلا وقد عدنا إلى الكسل والغفلة والتفريط، وإلى إضاعة صلاة الفجر، وأمسينا نتسلّل من صلاة التراويح بعد ركعتين أو أربع منها، ونحرم أنفسنا في كلّ ليلة أجر قيام ليلة كاملة!
يقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: “هذا شهر رمضان قد انتصف، فـمن منكم حاسب فيه نفسه لله وأنصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفاً من فوقها غرف؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟
تنصّف الشّهــر والهفاه وانهدما * واختصّ بالفوز بالجنّات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسراً * مثلي فيا ويحه يا عظم ما حُـرِما
من فاته الزرع في وقت البذار فما * تراه يحـصـد إلا الهمَّ والنــدما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته * في شــهره وبحبل الله معتصما” (لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: 262).
رمضانُ يا قومِ انتصَف * فتداركوا ما قد سلف
وتزوَّدوا لمعادِكم * قبل الندامةِ والأسف
وتذلَّلُـوا لإلهكم * فالذُّلُّ للمولى شرف.