ما موقعُ المتعلّم في عملية إصلاح المناهج؟

إن سؤال: ما موقع المتعلّم في عملية إصلاح المناهج؟ هو سؤالٌ خليق بالمناوشة وحقيق بالمنازلة، ولو لهنيهات قصار، من طرف كل من يتجشم تعب التصدي لعملية إصلاح المناهج التعليمية، إن في خطوتها التنظيرية أو في مرحلتها البنائية الإجرائية. وهذا السؤال المعتبر مستقدَم من تفكيك سؤال آخر أكبر منه، ونازل من رحمه، وهو: متى يُسمع صوت المتعلّم؟
بالرغم من علاقة الاحتواء التي تجمع بين السؤالين، فإن السؤال الأول ألزم وأسبق بالاعتناء لما نعلم أن التعليم هو جواز السفر للانتقال إلى المستقبل، وأن المناهج التعليمية هي خرائط الطريق التي تُنصَّب كعلامات للسير في طريق هذا السفر المصيري، وأن المتعلّم هو المسافر. وعليه، فإن من حق هذا الأخير أن يرفض الأماني، وأن يتطلع إلى المشاركة الفعلية في اختيار ملامح وأوصاف مستقبله المرتقب.
وُجدت المدارس لخدمة المتعلّم وتشكيل عناصر شخصيته ورعايته وترقيته، إلا أن الوصاية المتزمتة ظلت تبعده عن بؤرة المشاورة تحت مظلة سلطان الأبوية التي تنوبه في كل أمر من أموره، وتفكر كنائب عنه بعيدا عما يطمح إليه، وتخطط له من دون محاولة الاستماع إلى رأيه، وترفض إشراكه فيما يخصه. وبذلك تضعه في موضع الانقياد الجبري والانسياق القسري اللذين يعجز عن التحرر من قبضتهما والتخلص من قيودهما.
لم يكن القول المردَّد: (المتعلّم هو حجر الزاوية في العملية التربوية، وهو ركيزتها وأساسها)، سوى مجرد شعار منزوع الامتداد والتبني، ففي الواقع، لا نصادف للمتعلم حضورا أو استشارة أو استفتاء في كل النشاطات التي تجري في فضاءات المدارس وفي أجواف أقسامها. وإنما يعامَل وفق القاعدة الفاسدة (اعتقد ولا تنتقد)، فمتى يظل المتعلم موضوعا على هامش ما يخطَّط له، ويراد منه بلوغه من خلال تعلمّه؟.
تُنجز المناهج التعليمية بعيدا عن مشاركة المتعلّم، ولا يُفسح له المجال للإدلاء بوجهة نظره فيما يخص مضامينها وعناصرها، وتوضع بين يديه كتب مدرسية تُفرض عليه فرضا من دون أن يؤخذ برأيه في ما يتناسب مع قدراته واستعداداته، وتقدَّم له المعارف تقديما سلبيا مملا لا يُنتظر منها أن تسوق له تطويرا يخدم جوانب من شخصيته، ويقوّم بطرائق تقليدية بائدة تعتمد على الحفظ وحده، ويحمَّل ذنب إخفاقات حصوله على علامات ضعيفة وغير مرضية، وتصب حمم النقد على رأسه صبًّا جمًّا تبلغ أحيانا حد الإساءة، ولا أحد يوجِّه التهم إلى المقصِّرين من واضعي الفروض والامتحانات، ولا يرى تصويب عجزه إلا في الدروس اللصوصية التي زادت حاله سوءا وتراجعا، وأفسدت أدوات تعلّمه وأنزفتها، وقهرت وظائفه العقلية وجمّدتها، وحوّلته إلى ببغاء يكرر ما حفظه بلسان متلعثم، ولا يعرف له استثمارا أو استعمالا، فكيف تتطلع مدرسة يجلس على مقاعدها طلاب في مثل هذه الظروف الانتكاسية إلى تجويد في مخرجاتها وتحسين في فعلها التكويني؟.
لا يمكن للمدرسة أن تخطو خطوات واثقة في طريق الارتقاء بفرض الوصاية الكاملة على المتعلم، وتحييد حضوره ومساهمته، والاستفادة من رأيه، وتعويده التفكير النقدي الذي يمنع تحويل العملية التعليمية إلى وظيفة روتينية متكررة كوظيفة الهضم التي لا تعرف إلا الاستهلاك المتخم. ولا شك، أن خسائرنا ستكون ثقيلة مكلفة إذا لم نغير من التعامل مع الاستثمار في عقول أبنائنا عن طريقة إدماجه. فهل يعقل أن نترك ربع سكاننا، وهو عدد تلاميذنا وطلابنا في كل المستويات التعليمية في مواجهة تعليم لا يلبي رغباتهم، ولا يتجاوب مع ميولهم؟ وكيف نستطيع أن نحقق من تعليمنا القفزات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية حتى نحقق تقدمنا على
المستوى العالمي وفي كل الميادين؟.
لكي تتطور المدرسة، وتجاري كل جديد مفيد وتواكب فرص الحداثة، يُطلب منها أن تعيد للمتعلم مكانته الرائدة في كل خطوة من خطواتها، وأن تتخلى عن فلسفة حشو العقول بكم هائل من المعلومات لا يستفيد من أغلبها في حياته العملية. وهذا ما يساهم في إعداد إنسان فاقد الإرادة وفاشل للقيام بالمحاولة، وينتظر المعارف الجاهزة من دون بحث أو عناء بعد أن يكبَّل بقيود أنماط استهلاكية شحيحة تقتل فيه المبادرة إلى التفكير العادي وصولا إلى التفكير الإبداعي.
منذ أيام قليلة، وقع بين يدي مقالٌ طويل ماض في نفس سياق حديثي، ويتحدث عن الحركة التعليمية في دولة فيتنام التي نالت استقلالها في سنة 1945م بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان، اقتطف منه السطور الموالية التي حملتني على الوقوف أمامها في انتباه، وهي السطور التي تنطق بما يلي: (بدأت النهضة التعليمية في الفيتنام مع الاستقلال ومع الزعيم التاريخي “هوشي مينه” والذي بدأ بالاستثمار في التعليم بمقولته “نحن لا ننظر فقط للعشر سنوات القادمة بزراعة الأشجار، ولكن أيضًا ننظر لبعد قرن من الآن بزرع التعليم”.
لكي تتطور المدرسة، وتجاري كل جديد مفيد وتواكب فرص الحداثة، يُطلب منها أن تعيد للمتعلم مكانته الرائدة في كل خطوة من خطواتها، وأن تتخلى عن فلسفة حشو العقول بكم هائل من المعلومات لا يستفيد من أغلبها في حياته العملية. وهذا ما يساهم في إعداد إنسان فاقد الإرادة وفاشل للقيام بالمحاولة، وينتظر المعارف الجاهزة من دون بحث أو عناء بعد أن يكبَّل بقيود أنماط استهلاكية شحيحة تقتل فيه المبادرة إلى التفكير العادي وصولا إلى التفكير الإبداعي.
ويتواصل المقال مُظهرا السر في هذه الوجهة الاختيارية الحضارية مضيفا ما يلي: (ركزت فيتنام في خطة التطوير على المناهج الدراسية كلها ومراجعتها كل بضع سنوات، فبجانب اللغة القومية الأساسية واللغات الأجنبية والعلوم الإنسانية التي تدرَّس للجميع والتي تفوّقوا بها أيضًا، قامت بالتركيز أيضًا على دراسة الرياضيات والفيزياء والعلوم والإنفاق عليهم ومنح الحوافز للدارسين، واستطاع أحد علمائها بالخارج، وهو “نجو تشاو باو” الفوز بجائزة “فيلدز” في الرياضيات وهي تماثل جائزة نوبل وذلك عام 2010م، ولتصبح فيتنام من أعلى المعدّلات تفوقًا في آسيا، وتتفوّق بالنشر العلمي عن المتوسط العامّ على دول كثيرة بآسيا. وهذه الخطط التعليمية واستمرارها أدّت إلى زيادة أعداد الطلاب الدوليين بجامعات فيتنام والتي وصل عددها إلى 240 جامعة، بل وضعت هدفًا مستقبليًّا لزيادة أعداد جامعاتها في أفضل تصنيف إلى 200 جامعة، وكذلك زيادة النشر الدولي بنسبة 10% مع زيادة الاستثمار في البحث العلمي ليصل إلى 2 بالمائة).
لا يتقدّم العطاء المدرسي إلا إذا لبّت محتويات المناهج المقترحة حاجات المتعلمين، وراعت الفروق الفردية بينهم، وتجاوبت مع رغباتهم، ووجدوا فيها ما يساير ميولهم، ويمتِّن خبراتهم، وينمِّي قدراتهم العقلية والنفسحركية والوجدانية ويقوي درجة استغلالها صوب تشييد كفاءات تحقق مرادهم على المديين القريب والبعيد، وتشكل امتدادا طبيعيا لتصوراتهم الأولية السليمة عن أي موضوع مطروق، وتؤهِّلهم لممارسة حياتهم في راحة واقتدار، وتجنِّبهم الإخفاق لبلورة حلول لمشكلاتهم اليومية التي تعترضهم في طريق سيرهم. ولما كانت المناهج التعليمية من أهم الوسائل التي تقود إلى تفوُّق المنظومة التعليمية أو فشلها، فإننا نجد أن الدوّل كلما أحست أن موجات تقهقر وتراجع تنتابها علميا واجتماعيا وجّهت سبابة الاتِّهام والطعن نحو المدرسة، وأسرعت إلى مراجعة مناهجها التعليمية وتطعيمها وتنقيحها حتى لا تتخلف عن الركب، ولا تخسر رهان التقدّم.
إن حضور المتعلمين في إعداد المناهج التعليمية هو حضور أثري مبني على حسن الترصد والاستقراء لكل معايير ومؤشرات العمليات التقويمية التي تجرى لاستجلاء نقاط القوة ونقاط الضعف في حصائلهم الاكتسابية مهما كان نوعها. ويعني ذلك أن إشراكهم لا يكون بالحضور والمشاركة في اقتراح مضامين المناهج وصياغتها، وإنما تكون مساهمتهم منسجمة ومتوافقة مع كل عنصر من عناصر شخصياتهم ودرجات نموّها، لأن التفاوت والاختلاف يتولد عنهما مشكلاتٌ عويصة منها النفور والكره والإعراض والتخلي، كأن تكون صنوف المعرفة المتضمنة في وحداتها كالمعلومات والحقائق والمفاهيم مثلا أكبر من مستوياتهم العقلية وأعوص عن الفهم والتمثُّل والاستيعاب.
يعيش عالم اليوم تطوّرات وتقلبات متسارعة، ولا يمكن لأي منظومة تربوية أن تناصبها العداء والخصومة، أو أن تقف أمامها موقفا يعبِّر عن إهمال أو معارضة أو حيادية. ولا تحصل المواكبة إلا إذا حاربت المناهج التعليمية الركود والسبات، واختارت التغيير والتطوير بما يتوافق وخياراتها وقيمها، ويفضي إلى بلورة آمالها على كل المستويات، وجعلت المتعلّم حاضرا في رحلة إعداد كل منهاج تعليمي قبل الشروع في تطبيقه.
تجنّب تشاركية إدماج المتعلمين في إعداد المناهج كثيرا من المشكلات التي تبرز في مرحلة التنفيذ. وبفضلها يقاوم الضياع المعرفي ويخفف من تدني المردود التحصيلي ويقلل من التسرب المدرسي المبكر. وعلى خلاف هذه المساوئ الشائكة، لا حياد عن البحث عما يولد التنافسية المحبذة في الفصول الدراسية، ويعظم الحافزية عند كل متعلم، ويوسِّع سعة دافعيته على وتيرة متزايدة ومنتظمة، وتجعله متعلقا بعمليات التعلّم الفصلية وتحثه للانطلاق في طريق الاستزادة النافعة اعتمادا على ذاته بعد أن ينال من التدريب حظا وفيرا. وفي الأخير، تجعله يكتشف لوحده أن الدروس اللصوصية ما هي إلا هراء وهذيان.