مجلس الشيوخ

عندما يضيق صدري بما أشهاده يوميا طيلة 14 شهرا، بلا حول مني ولا قوة، لا أجد ملجأ أو مخرجا غير الخروج من البيت وآوي إلى ركن شديد، مع مجموعة أصدقاء شيوخ، كلهم كانوا موظفين خرجوا للتقاعد المسبق قبل سنوات، إما من التعليم أو الإدارة، كلهم تجاوزوا السبعين.
نجلس على قارعة الرصيف، أحيانا مع ترموس قهوة يحضرها أحدنا وفناجين بلاستيكية، ونبقى لساعات نهدر في كل شيء إلا السياسة الداخلية والخارجية، ونمتنع عن الخوض في السلبيات ولو كانت كثيرة، هربا من “الشحن السلبية” التي تعكر صفونا، ولا نتحدث إلا في المسائل العرضية: “حكايات زمان، وأصدقاء زمان وأيام زمان”.
اليوم، بعد أن خضنا في كثير من قصصنا القديمة، أيام الصغر وأيام العمل، بدأ أحدنا في التنكيت، وهو فارع في هذا المجال: “الجيلالي”.
كنا خمسة، كل واحد فينا عنده من المخزون الاستراتيجي من الضحك والحكايات والنكت والقصص ما يملأ به عشرة أكياس طحين فارغة من فئة القنطار، على الرغم من أن خامسنا، “الحاج ديدان”، قليل الحديث، إنما عندما يفجر عبوة، فقد ينسف كل ما فات: له طبيعة صامتة، لكنه يتابع كل شاردة وواردة وكل صغيرة وكبيرة: سمعه المرهف الذي لا يزال يتمتع به رغم تقدمه في السن، وهو أكبرنا 80 سنة، يمكنه من تذكر تفاصيل تمر عليك بلا أثر. عنده استعداد فطري للرد الفوري والمصوب بشكل دقيق، يجعلك تنتظر تدخله بتشوق، مع أنك، مهما دفعته للحديث، لا يرد. يكتفي بابتسامات عريضة ولا يتحدث، وإذا تحدث انفجر الجميع ضحكا.
بعدما خضنا الحديث في قصص زمان مع الكلاب الضالة التي نهشت سروال “العربي” ودخل بيته بلا سروال، وكان متزوجا في سن 19 سنة، وكيف ستر نفسه بقميصه وترك صدره عاريا ليدخل البيت بعد أن عضه كلب “بوسيف” على بعد 200 متر من بيته. حكايات أخرى، مثل قصة مبيت أحدهم، “الحاج الديب”، في وكر ذئبة مع جرائها أيام الثورة، وكان شابا هاربا من العسكر الفرنسي، حتى سمي “الذيب”..
بعدما فرغ كل واحد منا مزوده التاريخي زمن الشباب والمراهقة، جاء دور هذا الزمن: زمن الكبر والشيخوخة، وبدأ التنكيت عن الشيوخ، عن أنفسنا جميعا، وكيف تبدل الحال بعد هذا العمر.
روى لنا أحدنا، لا أذكر من ولكن يبدو أنه “بوجنان” أنه يوم أمس، لم يجد ما يقوله لزوجته من منغصات سوى أنه قال لها: “أين الغبار الذي كان على المائدة”؟ قالت له: “لماذا تبحث عن الغبار؟ عن الوسخ؟ لقد نظفت المائدة”. فرد عليها: “شكون قالك نظفي المائدة؟ كنت كاتب عليها رقم هاتف الراجل اللي سلفت له البارح 200 ألف في الجامع”.
“بوجنان”، يقول عن نفسه إنه يهرب من بيته إلى الخارج لكي يريح زوجته، ويستريح هو الآخر من “التنقريش نتاعها”. يقول إنها لا تترك الهاتف يستريح: تهدر بالساعة والنصف بلا توقف. البارحة، يقول إنها لم تتحدث سوى نصف ساعة، فسألها: “مش من عوايدك تهدري أقل من ساعة، واش القصة اليوم”؟ قالت له: “لا لا هذه غير وحدة غالطة في التلفون”.
“بنعمر”، كانت قصته ألعن مع مجموعة شباب كانوا في ما يبدو مزطولين، مر عليهم ما بعد صلاة العشاء، فسمعهم يتفوهون بكلام العيب أمام الجامع، قال لهم وهو يمر: “حرااام عليكم”. فردوا عليه جميعا: و”عليكم الحرام”، فقرر أن يغير الجامع.
“بوعزة”، راح يروي لنا قصته مع الطبيب قبل سنة. يقول: سألني الطبيب: أين الألم الذي تشعر به؟ قلت له: هنا هنا.. فوق les overs.. ضحك، ثم قال لي باسما: “أنت رجل ولست امرأة، “ليزوفير” عند المرأة لكي تلد”. فقلت له: “في بلادنا الدجاج ما عادش يولد.. البيض راه بالثمن الصيح، الديك هو اللي ولّوده بالسيف على يماه”. وضحك الطبيب وضحكنا جميعا.
أما ختام المسك لهذه الجلسة على قارعة الطريق، التي نسميها بيننا: “مجلس الشيوخ”، فكان شبه حوار بين “بوعلام” و”الحاج ديدان” الصامت دوما، الذي سمي “الحاج ديدان”، رغم أن اسمه “أحمد”، لأنه كثيرا ما يردد: “لما كنت على ديداني…”، أي، لما كنت شابا وفي عز الصحة.
“بوعلام”، راح يعلق على الصحة التي ذهبت: “راني نحس بللي هذه هي التالية، هذه هي الآخرة نتاعي قربت: الظهر يوجع، الراس يسطر، القلب يضرب، المعدة تحرق، الركابي فاشلين، الرجلين باردين”، فرد عليه، “الحاج ديدان”: أنا هذا وين راني نحس روحي ولدت من جديد: أصلع بالتمام، الأسنان بححح.. وكل مرة نبدل ليكوش.. هذه المرة الثانية هذا النهار”…
وينفجر الجميع ضحكا، وينفض “مجلس الشيوخ”.