مجلس الصلح ببجابة.. ترسيخ لمؤسسة “تاجماعت” في إطار رسمي أكاديمي
تعد جمعية مجلس الصلح لولاية بجاية، التي أطفأت مؤخرا شمعتها السابعة، استكمالا لجهود ومساعي المؤسسة العرفية “تاجماعت” في حل الخلافات والنزاعات بمنطقة القبائل، بعيدا عن أروقة العدالة، متخذة من المعرفة القانونية، الدينية والخبرة في مختلف التخصصات ركائز فعالة لبلوغ أهدافها المسطرة في إطار رسمي وقانوني، لعب فيه العنصر النسوي والشباب دورا هاما.
تأسست جمعية مجلس الصلح لولاية بجاية في التاسع أوت من سنة 2016، وتعد بحسب رئيسها، السيد “أغليس بويد”، في لقاء مع “الشروق” جمعية ولائية معتمدة، تسعى إلى حل النزاعات بين المتخاصمين وإصلاح ذات البين ونشر ثقافة التسامح، باشرت مهامها خلال السنوات الأولى بنحو 15 إلى 20 عضوا موزعين على مختلف بلديات وداوئر الولاية قبل أن يرتفع عدد أعضائها اليوم إلى 49 عضوا، منقسمين إلى أعضاء مؤسسين، تنفيذيين، منخرطين وشرفيين، مضيفا أن المعايير المعتمدة في اختيار الأعضاء ترتكز على النزاهة والقبول الاجتماعي بالدرجة الأولى، على اعتبار أن نشاط الجمعية ينصب على حل الخلافات وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين، ناهيك عن الكفاءة والخبرة المنشودة في حل النزاعات، إذ ليس من الضروري أن يكون للأعضاء مستوى جامعي عال، وتضم الجمعية اليوم، خيرة أئمة الولاية، أساتذة جامعيين، خبراء معتمدين بالمحاكم والمجالس القضائية، محامين، عقلاء وأعيان القرى المختلفة.
إحياء مؤسسة “تاجماعت”
أكد الدكتور “بويد اغليس” أن المساعي الأولى لتأسيس الجمعية، كانت تنصب حول جعلها ذات طابع وطني، غير أن الظروف لم تسمح بذلك لعوامل مرتبطة بنقص الإمكانات وصعوبة التسيير، ما جعل الجهود تقتصر على جعلها جمعية ولائية، تسعى إلى تحقيق النفع العام، مؤكدا أن فكرة التأسيس مستمدة بالدرجة الأولى، من المؤسسة العرفية “تاجماعث” التي كانت سائدة في المجتمع القبائلي، في ما يتعلق بفض النزاعات وتنظيم الحياة الاجتماعية للأفراد، ناهيك عن عوامل شخصية أخرى تكمن في الدور الذي لعبه المتحدث، في حل الخلافات على مستوى محيطه ومنشئه، وتوجهه العام لدفع السكان إلى حل الخلافات بعيدا عن أروقة المحاكم، بالرغم من تخصصه في مجال المحاماة والحقوق.
استقبال 329 قضية
يختص مجلس الصلح لولاية بجاية، بحسب المحامي “أغليس بوزيد”، بكل القضايا التي يسمح القانون الجزائري، بأن تكون موضوعا للصلح، حيث لا يجوز عقد جلسات للصلح في القضايا المتعلقة بالحالة الشخصية، وكذا النظام العام والآداب العامة، مشيرا إلى أن عدد القضايا التي تم طرحها أمام المجلس منذ نشأته قدرت بـ 329 قضية، منها ما تم تسويته بطريقة إيجابية، في حين فشلت مساعي الصلح في أخرى، كما تم تسجيل قضايا، لا يسمح القانون بأن تكون موضوع صلح، وأخرى لا يزال النظر جاريا فيها، مضيفا أن المجلس يشهد إقبالا كبيرا من قبل مختلف أطياف المجتمع، على الرغم من كون قراراته غير إلزامية، الذي يفسر، بحسبه، بتعطش هذا الأخير إلى الخير وحاجته إلى من يحركه فيه، بدليل قدرة المجلس على حل نزاع بين الورثة في ظرف ساعات معدودة، بعدما استمر هذا الأخير مدة 12 سنة في أروقة العدالة، وإعادة مد أواصر الأخوة بين عائلتين متخاصمتين لمدة 16 سنة.
هكذا يتم عقد جلسات الصلح
يتوجب على الأطراف المتخاصمة الراغبة في تدخل مجلس الصلح، تقديم طلب في القضية مصادق عليه من قبل مصالح البلدية، يتم فيها توضيح طبيعة الخلاف بالإضافة إلى وثائق تدعيمية إن أمكن، قبل أن يتم دراسة الملف من قبل المجلس والاتصال بالطرف الآخر وعقد جلسة انفرادية معه، لمعرفة رأيه في الصلح، بعدها يتم برمجة لقاء على مستوى المجلس أو فضاءات أخرى، بعد تعيين اللجنة التي تتوافق كفاءاتها مع موضوع النزاع، وبعد المداولة التي تتمخض عنها الحلول المقترحة لحل الخلاف، وفي حال قبولها، يقوم المجلس بالمرافقة بعد الجلسة، للمعاينة والوقوف على مدى تجسيد القرارات المتخذة، مشيرا إلى أن نشاطهم في بعض القرى، يستوجب الاستعانة بعقلاء القرى وأعيانها من الأعضاء الشرفيين.
رئيس الجمعية، أكد أن أغلب القضايا المطروحة تتعلق بالميراث، الهبات، قضايا الشقاق بين الزوجين، مضار الجوار، حيث تحتل الأخيرتان صدارة الترتيب بالولاية، مضيفا أن العمل الميداني، كشف لهم غياب الثقافة القانونية بين أفراد المجتمع، ناهيك عن طغيان النزعة المادية به، وانتشار التضليل بشكل لافت.
وعلى خلاف ما كان منتشرا بمنطقة القبائل، أين تقتصر جلسات الصلح والاجتماعات الخاصة بتسيير شؤون القرى والأحياء، على الرجال فقط، فإن مجلس الصلح لولاية بجاية فتح الباب على مصراعيه أمام العنصر النسوي، الذي يشهد له بالكفاءة والتميز القادر على تقديم قيمة مضافة ونوعية للمجتمع، حيث انضمت إلى صفوفه خلال بداياته الأستاذة الجامعية “زوبيدة أقروفة” قبل أن تلتحق بها بعدها أستاذة التعليم القرآني السيدة “سامية قمرة”، إلى جانب 4 طالبات جامعيات استكملن دراستهن، أوكلت إليهن مهام متعددة بالمجلس، ويشاركن في جلسات الصلح وإبداء آرائهن في مختلف القضايا المطروحة.
والمميز كذلك بمجلس الصلح ببجاية، أن أعضاءه ينتمون إلى فئات عمرية مختلفة ومتباينة، حيث يبلغ عمر أكبر عنصر به 93 سنة، ويتعلق الأمر بالسيد بن خليفة أرزقي، الذي لا يتأخر مطلقا عن أي دعوة يوجهها له المجلس، في الوقت الذي لا تتجاوز فيه سن أصغر عنصر به 24 سنة، وهو المزيج الذي يسمح بتوريث الصلح لفئة الشباب ونقل الخبرات والتجارب المختلفة له في إطار عمل ميداني ملموس.
قضايا بارزة
أوضح كل من رئيس الجمعية “بوزيد اغليس” وأمينها العام الأستاذ “حسايني عبد الغاني” أن المجلس عالج قضايا عدة، بعضها لا يمكن أن يغادر الأذهان، وفيه يتوضح الدور الهام الذي يلعبه المجلس في رأب الصدع، وإعادة اللحمة وتطهير القلوب من الضغينة، ما يسمح بإعادة مد أواصر العلاقات من جديد بطرق سليمة، أهمها قيام أعضاء المجلس بإصلاح ذات البين بين شقيقين متخاصمين، قبل أن يتبين أن أحد الأطراف خاصم والديه لمدة 19 سنة كاملة، ما دفع بأعضاء المجلس إلى إقناعه بالعدول عن موقفه والتوجه لطلب السماح والعفو من والديه، حيث أغمي على والدته من الفرحة، بمجرد أن رأته متوجها إليها، كما تمكن أعضاء المجلس من عقد الصلح بين زوجين كانا على أبواب الطلاق، بعد عشرة طويلة أثمرت 11 طفلا آخرهم يبلغ من العمر 19 سنة، حيث توقفت إجراءات الطلاق المباشرة بينهما، كما تحولت إحدى جلسات الصلح التي تم عقدها لحل خلاف حول حق الحضانة والزيارة بين زوجين مطلقين، إلى جلسة كللت بعودة الزوجين للبيت الزوجي، بعقد جديد، في الوقت الذي وفق فيه المجلس لحل خلاف استمر بين أخوين لمدة 39 سنة، حول مستودع، وتم بينهما رفع عدة قضايا بالمحاكم والمجالس أبرزها قضية بتر عضو، حيث قام الطرف المسيطر بعض أصبع شقيقه خلال مشاجرة بينهما وبتر إصبعه.
وموازاة مع الدور التوعوي والميداني الذي يقوم به مجلس الصلح لبجاية، يلعب هذا الأخير وضمن الإستراتيجية المسطرة له دورا أكاديميا هاما، حيث يتم إعداد عدد هام من الكتب والبحوث التي تختص بموضوع وقضية الصلح وسيتم تقديمها مستقبلا في شكل مكتبة مفتوحة للعامة، لاسيما الباحثين الجامعين والميدانيين، كما يفتح المجلس أبوابه في إطار اتفاقية التعاون مع الجامعات، لاستقبال طلبة متربصين بالمجلس، يمكنهم الاطلاع والمشاركة في نشاط المجلس.
رئيس مجلس الصلح، أوضح أن من بين آفاق المجلس المستقبلية، محاولة تعميم الفكرة لجعلها وطنية، وهو الأمر الذي لا يمكن تجسيده إلا من خلال توفير الإمكانات الضرورية، حيث يأمل في الوقت الراهن الحصول على مقر جديد، يستجيب لحاجات ونشاطات المجلس، كما يعتزم طاقمه مستقبلا تنظيم ملتقيات وندوات ذات بعد وطني، في الوقت الذي يبذل اليوم جهودا معتبرة في ميدان تكوين أعضائه في مختلف المجالات.