-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محمد حسنين هيكل … أسطورة إعلامية عربية لم تتكرر

محمد حسنين هيكل … أسطورة إعلامية عربية لم تتكرر

في مثل هذه الأيام من عام 2016 ينتقل إلى رحاب الله الأستاذ محمد حسنين هيكل، ويختفي من مسرح الحياة واحد من أهم الصحفيين العرب ومن أكثرهم إثارة للجدل واستثارة للحسد.

ومن أبسط الواجبات وبرغم الاهتمامات الكثيفة التي يعيشها القراء هذه الأيام رأيت أن أستذكر بعض ملامح هذا العملاق الذي كان فصلا رئيسيا في تاريخ الإعلام العربي لا يمكن تناسيه، ومؤسسة قائمة بذاتها لا يمكن تجاهلها، ومرجعية من أهم المرجعيات السياسية خصوصا بالنسبة للمنطقة العربية، وهو من قال عنه نجيب محفوظ: “لو كان هيكل روائيا.. لما كان لنا عيش في هذا البلد!!”

ولا أعتقد أن هناك عربيا لم يكن ينتظر يوم الجمعة من كل أسبوع ليلتهم مقال هيكل، الذي كان يحمل عنوان “بصراحة”، وهي صراحة كانت مرجعيتها الأساسية وجهة نظر الرئيس المصري ومواقفه المحلية والدولية، ومن هنا جاء اتهام هيكل من قبل كثيرين بأنه يمارس ما يسميه رجال القانون “الكذب بالحذف” لمصلحة رأس النظام.

لكن هذا لا ينقص من قيمة المعلومات التي يوردها الكاتب، ولا من الآراء التي كان ينثرها، ومن بينها أنه لا أمل في وفاء إسرائيل بأي من تعهداتها.

ويشهد منتصف 1965 علامة فارقة في علاقة هيكل بالجزائر.

ففي 19 يونيو يقوم العقيد هواري بو مدين بإزاحة الرئيس أحمد بن بله عن رئاسة الجمهورية فيما عُرِف بالتصحيح الثوري، والذي كان محركه الرئيسي قيام الرئيس بإنشاء مليشيات عسكرية رأى أن يوازن بها قوة الجيش الوطني، ورأى بو مدين آنذاك أن وجود قوتين مسلحتين تنتميان إلى قيادتين غير منسجمتين قد يكون بابا للحرب الأهلية، وهكذا أنهى تحالفه مع الرئيس برغم أن جيش التحرير الوطني بقيادة العقيد هو الذي دعم وصوله إلى السلطة في الجزائر المستقلة، بعد أن رفض ذلك المناضل محمد بو ضياف.

وكان التغيير صدمة للقيادة المصرية التي فوجئت به، بينما كان الشائع أنها تسمع حفيف أجنحة البعوضة الأنثى في الجزائر، التي تستقبل وفدا عالي المستوى بقيادة المشير عبد الحكيم عامر وعضوية الأستاذ هيكل بحجة قيل يومها أنها الاطمئنان على الرئيس بن بله، وكانت هناك تلميحات واضحة بطلب استضافة الرئيس الجزائري السابق في مصر.

وبرغم حرارة الاستقبال فإن الوفد عاد إلى القاهرة بخفيْ حنين، وتابعت الجزائر بكثير من اللامبالاة مقال هيكل الناري الذي سخر فيه من فعالية ما قام به بو مدين، وركز فيه الصحفي الكبيرعلى “الركام” الذي كان يملأ شوارع الجزائر، في حين لم يرَ هيكل منها في الواقع إلا الشارع المتوجه من المطار إلى مكتب الرئيس بو مدين.

وساد البرود مواقف هيكل من الجزائر، وهو ما كان يعكس بالضرورة موقف القيادة المصرية، مع بعض المبالغة التي يلجأ لها غالبا صحفي يريد أن يُثبت ولاءه لقيادته السياسية.

كنت يومها أمارس عملي الطبي في عيادتي الخاصة، بعد استقالتي من الجيش، لكنني واصلت كتاباتي في مجلة الجيش، وهي مقالات كنت أبادر بها بدون أي توجيهات من أي جهة كانت، وربما كانت هي الدافع الرئيسي الذي جعل الرئيس بو مدين يستدعيني بعد أقل من أربع سنوات لأكون مستشاره الإعلامي، وليقول لي بأنه كان يجد نفسه في الكثير مما أكتبه.

لكن الفتور في العلاقة بين مصر والجزائر حل محله دفء متصاعد بعد الموقف الذي اتخذه الرئيس بو مدين إثر هزيمة 1967، والذي لا أرى ضرورة لاسترجاعه.

وكتبت يومها، وتحت عنوان الأسبوع الأسود، مقالا ناريا كان مما جاء فيه أن “نقطة الضعف الرئيسية (..) هي انعدام الاستراتيجية العربية الشاملة التي ترسم خريطة الموقف وخطة العمل (..) وبينما كانت القضية من الجانب الإسرائيلي قضية عسكرية علمية كانت في الجانب العربي صراعا بين عسكرية استعراضية واستعراضات سياسية ديماغوجية”.

وتابعنا تعليقات هيكل على ما كنا نقوله، والذي كان مضمونه أن (هناك أناسا يعيشون على بعد آلاف الكيلومترات من الميدان، ولا يعرفون حقيقة ما يجري فيه)، وكان هذا في نفس المرحلة التي كان فيها الرئيس بو مدين يزور موسكو مع الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف لحث الاتحاد السوفيتي على أن يكون أكثر دعما للساحة العربية، وبعد أن أرسلت الجزائر اللواء الذي كُلّف بحراسة المنطقة الواقعة بين السويس والقاهرة، ووضعت كل ما تملكه من طائرات “الميغ” تحت تصرف القيادة المصرية.

وقلت في مجلة الجيش بأنه (كان من الممكن أن يتغير الوضع في سيناء لو أقيمت فيها مستعمرات (مصرية) ذاتية الاكتفاء وبنفس الطريقة التي استعملتها إسرائيل، فهناك جبال وممرات كانت عبر التاريخ مقرا للمهربين الذين فشلت كل المحاولات للقضاء عليهم، فلم لا تكون هذه الجبال مقرا للفدائيين ومركزا للمقاومة الشعبية؟).

وإذا كنت توقفت عند هذه الكتابات ذاتية الدوافع فلمجرد أن أقول بأن المثقف الجزائري كان يومها يتابع ما يحدث في المشرق بكل وعي واهتمام، وإلى درجة يمكن معها القول بأنه كان يقوم بدور طلائعي بالنسبة للقيادة السياسية، التي كانت بعيدة كل البعد عن الغرور الذي يجعلها تترفع عن متابعة زفرات المثقفين.

ولم أخفِ مخالبي فقلت في (مجلة الجيش – أبريل 1968): مضحك أن يقول هيكل أنه : (لو كان هناك تنسيق كافٍ وفعال بين الجبهات العربية لاستُغِلت فترة الضربة الأولى ضد مصر في ضرب ممرات المطارات الإسرائيلية)، وهو منطق سليم جدا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كما كتبت، (من الذي استشار بقية الجبهات العربية قبل القيام بالتحركات السياسية والعسكرية التي اعتبرها العدو إعلانا لحالة الحرب ؟).

وينتقل الرئيس عبد الناصر إلى رحاب الله، ويتولى الحكم الرئيس أنور السادات، وتندلع حرب أكتوبر، وكلها أيضا أحداث معروفة التفاصيل لا أجد ضرورة للتوقف عندها، وبعد ذلك يحدث الشنآن بين السادات والكاتب الكبير.

وأصبح هناك جانب شخصي في علاقاتي مع هيكل، وكان العنصر الرئيسي محاولة البعض في الجزائر عقد مقارنات بين الصحفي الكبير وبيني، وبدأ ذلك الصحفي القومي اللبناني الكبير الأستاذ فؤاد مطر، الذي استعرض يوما أسماء بعض المثقفين، ممن ارتبطوا بقيادات سياسية كاريزمية على الساحة العالمية، وتألقوا بها ومعها وبجانبها، وأورد في هذا الصدد أندريه مالرو الذي ارتبط اسمه بالرئيس الفرنسي شارل دوغول، وبيير سالينجر الذي ارتبط اسمه بالرئيس كينيدي، وهيكل الذي ارتبط اسمه بالرئيس جمال عبد الناصر، وتفضل فأضاف اسم خادمكم المطيع إلى القائمة، على أساس المرحلة التي عملت فيها مع الرئيس الجزائري هواري بو مدين وانطلاقا مما كتبته عنه بعد رحيله.

وخلال مرحلة الشنآن بين هيكل والسادات في الظروف المعروفة، قام هيكل برحلة صحفية قادته إلى عدد من البلدان العربية كان من بينها الجزائر.

وعندما أبلغتُ بنبأ الزيارة حرصت على أن أعرف من السفارة المصرية في الجزائر الوضعية البرتوكولية للزائر، وعلمتُ بأنه عُيّن مستشارا برئاسة الجمهورية، فأبلغت الرئيس بو مدين الذي كلفني بأن أتولى بنفسي كل ما يرتبط بالزيارة.

وحدث يوم الوصول أن الرئيس استدعاني لأمر عاجل، فاضطررت إلى تكليف نائبي الهادي حمدادو المستشار التقني بالرئاسة باستقبال الضيف ومرافقته إلى مقر إقامته، ثم إلى مطعم “الطاحونة” الذي عُرف بمأكولاته الجزائرية وعلى رأسها المشوي والكسكسي.

وأفلتّ من مكتب الرئيس في حدود منتصف النهار فأسرعت إلى المطعم الذي يقع على بعد نحو عشرة كيلومترات من مقر رئاسة الجمهورية، وكنت، والسائق يجتاز شوارع العاصمة الجزائرية، أستذكر كتاباتي العنيفة ضد هيكل بل وضد الرئيس عبد الناصر نفسه، وخصوصا إثر هزيمة 1967.

ودخلتُ إلى قاعة المطعم حيث كان هيكل جالسا وظهره نحو المدخل، وحوله عدد كبير من المثقفين والإعلاميين الجزائريين كنت دعوتهم للغداء معه، وتفضل هؤلاء، بمجرد أن رأوني داخلا، بالوقوف، وفهم الضيف بأن مضيفه وصل فوقف والتفت إلى الخلف وما أن رآني حتى عاود الجلوس وهو يقول ضاحكا : “أنت فلان ؟، لقد تخيلتك ضخما مثل مصطفى موسى” (فقد هاله أنني ضئيل الحجم)

واكتشفت يومها مدى بشاعة الصورة التي يحملها الأشقاء عن أخيكم.

لكن هيكل كان رائع التعامل مع الجميع، وأصر على أن أناديه باسمه الأول، محمد، رافضا أن أستعمل في مخاطبته لقب الأستاذ.

وحرصت من جهتي على أن تكون إقامته في الجزائر ممتعة ومفيدة، وكلفت بمرافقته الصحفي سعد بو عقبة الذي جاءني في اليوم التالي مسرعا ليبلغني بأن السؤال الرئيس الذي كان هيكل يبحث عن إجابة له هو: ما هي معايير الوصول إلى السلطة في الجزائر.

ثم نظمت لهيكل عدة لقاءات مع الرئيس بو مدين، وكان الغريب أن الكاتب الكبير لم ينشر، حتى وفاته، حرفا واحدا عن لقاءاته مع بو مدين، وهي لقاءات دامت عدة ساعات، وعرفتُ من الرئيس أنها تناولت قضايا كثيرة، محلية ودولية، وهو، في تصوري، تقصير كبير، خصوصا وأنني، محافظة على حميمية اللقاء بين الرئيس وضيفه، لم أحرص على حضور اللقاءات، كعادتي عندما يستقبل الرئيس بو مدين شخصيات صحفية.

ويرى المراقبون أنه كان في جعبة هيكل أشياء كثيرة يمكن أن يقولها عن الجزائر، أهمها لقاؤه بالرئيس هواري بومدين، وادعى البعض يومها أن هيكل خشي من مقارنات للبعض مع عبد الناصر.

رحم الله هيكل، الذي كان ظاهرة إعلامية لن تتكرر، وصفحة طُويت إلى الأبد من صفحات الإعلام المصري، وغفر رب العزة له ولنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!