محمد لخضر حمينة.. المخرج الذي رفع سقف السينما الجزائرية عاليا

فقدت السينما الجزائرية، اسما، كان علامة فارقة في تاريخ الفن السابع بالجزائر، ومبدعا، رفع سقف الطموح عاليا، استطاع أن يدرج اسم الجزائر في مهرجان “كان”، جنبا إلى جنب مع الأسماء الكبيرة، وأن يترك عمله “وقائع سنوات الجمر”، في رف من رفوف مكتبة الأعمال الخالدة، وأن يكرم بالسعفة الذهبية، التي تبقى الأولى في العالم العربي والإفريقي، ليصبح بذلك مرجعا، يقف عنده المهتمون بهذا الفن، كلما عاد هذا المهرجان.
شاءت الأقدار، أن يرحل إلى عالم الخلود، وعمله يعرض خلال هذه الدورة لمهرجان “كان”، وأن يدرج اسمه مع أكبر الأسماء التي حضرت خلال هذه الدورة، وإن كان غائبا بالجسد وبعده بالروح، لكنه سوف يبقى عالقا في ذاكرة هذا المهرجان مستقبلا، يصفق له، كلما ذكر اسمه في هذا المقام. هي خسارة للفن السابع في الجزائر وللسينما عامة، حينما تنطفئ روح مبدع، مثل محمد لخضر حمينة، الذي رسم لهذا الفن في الجزائر، اسما بأقلام من نور، سوف يبقى ساطعا في كل المهرجانات.
لقد اختار لمسيرته في عالم الفن السابع، التطرق إلى ألم ومعاناة الشعب الجزائري، فكرس حياته في الفن السابع، الذي اختاره منبرا له لمخاطبة الجهور، وكذا العمل على الفن الملتزم، الذي يوثق للقضايا العادلة والوقائع الحقيقية، الذي ينقل معاناة الوطن، منذ البدايات الأولى في السعي للتحرر، فاستطاع من خلال نظرته ومعايشته لذلك الواقع، أن يرسم خريطة كفاح الشعب الجزائري بتفاصيل دقيقة، تحكي قصص شعب رفض الاستعمار والعبودية مند فجر الاستدمار.
ما قدمه المبدع محمد لخضر حمينة، الذي يعتبر كما علق عنه الكثير، سيد السينما بالجزائر دون منازع، يدفعنا إلى البحث عن ماهية هذا الاسم، كيف ومن أين أتى؟ وكيف صنع لمسيرته برجا عاليا، حتى وضعها جنبا إلى جنب مع الكبار، يكرم خلالها أينما حل وارتحل، وأن يصبح الأول عربيا وإفريقيا، ممن قطفوا السعفة الذهبية خلال مهرجان يعتبر من أكبر المحطات في العالم، التي يحتفى فيها بالفن السابع، وهو مهرجان “كان”، تاركا المجال بعده، للاجتهاد من أجل نيلها عند العرب والأفارقة.
بالعودة إلى مسقط رأسه، فهو ابن مدينة محافظة، المسيلة في تلك الفترة، حيث أتى إلى الحياة في سنة 1934، بعد التدرج في التعليم في الجزائر، بين مسقط رأسه وبعده بضواحي العاصمة بدلس، ثم انتقل إلى قالمة، ومنها هجرته إلى فرسنا، حيث استقر على دراسة القانون أو الحقوق، لكنه، كغيره ممن تزامن بلوغ سنهم بفترة التجنيد في تلك الحقبة الاستعمارية، فقد طلب للتجنيد وأداء الخدمة العسكرية، الطلب الذي دفعه إلى ضرورة الاختيار، بين خدمة المستعمر أو الفرار، للالتحاق بإخوانه في صفوف جبهة التحرير الوطني، سنة 1959.. فاختار قرار الوفاء للوطن، ليعلن بذلك كرهه لهذا المستدمر، الذي رسمه في ما بعد، في كل أعماله، ومن هنا ندرك وعي الرجل، في خدمة الوطن بداية بالفرار، من التجنيد في صفوف العدو واختيار توجيه السلاح ضده، إلى أن أصبح يكافح وينقل معاناة الوطن بشكل آخر، وهي السينما العابرة للأوطان والقارات.
أما من حيث النبش في مسيرته في عالم السينما، فلا يمكنك أن تخطئها، فمجرد كتابة اسمه على محرك البحث أو حتى على محرك ذكريات الأشخاص، ممن عاصروه، حتى المشاهد البسيط، سوف يحملك مباشرة إلى العديد من أعماله، التي وثقت حقيقة الفن في ذهن محمد لخضر حمينة، الذي اختلف في الطرح، لكنه لم يختلف في المضمون، وهو خدمة الثورة والتوثيق لها من عدة زوايا، كمن يحمل الكاميرا ويتجول بين الدمار، الذي خلفه المستعمر في الجزائر، لكن الاختلاف البسيط، أن المخرج محمد لخضر حمينة كان يضرب على وتر الإحساس والعاطفة وكذا العقول في العديد من أعماله، ليلمس بذلك ويدغدغ مكنونات كل من جلس إلى أعماله، سواء الأفلام القصيرة أم الوثائقية، سواء كمخرج بنفسه أم بشراكة مع بعض المخرجين، بلمسته الظاهرة للعيان.
خريطة الطريق نحو السعفة…
نلمس في عجالة أهم المحطات المشتركة في عالم الإخراج، منها:
“جزائرنا” 1961 للتعريف بالثورة الجزائرية، كذلك الفيلم الوثائقي، “بنادق الحرية” 1961، رفقة شندرلي، “صوت الشعب” 1961، مع شندرلي كذلك.
صورة “الدجاجة” مقابل “الابن” التي تبقى راسخة…
بعد هذه التجارب الجميلة في مجال الإخراج المشترك، كان واجبا على المبدع محمد لخضر حمينة، أن يقف على قمة ما تخمر في ذهنه في مجال الإخراج، بين ما عاشه وما درسه، وأن يترجم هذا واقعا، فجاءت رائعة “ريح الأوراس” سنة 1966، التي كانت ريح بركة على السينما الجزائرية، من سيناريو حمينة وتوفيق فارس، وقف على أحداث أدواره، كل من كلثوم وحسن الحسني ومحمد شويخ، التي نقل من خلالها لخضر يوميات عائلات الأوراس في أعالي الجبال، تحكي قصصا قصيرة ليوميات كل فرد في منصبه، لتتطور الأحداث بعدها، بين الاستشهاد والتضحية، وبين بحث الوالدة عن ابنها في غياهب السجن، والصورة التي تبقى خالدة في ذهن المشاهد، الدجاجة مقابل الابن، التي رسمتها “كلثوم”، إلى أن تنتهي قصتها، بعدما وجدته ثم اختفى مرة أخرى، لتختفي هي كذلك إلى الأبد، حينما أمسك بالسياج المكهرب.
تاج “السعفة الذهبية”
نصل إلى محطة مهمة في حياة المخرج محمد لخضر حمينة، وكذا السينما الجزائرية، التي اجتهد خلالها من أجل الوقوف على فترات عديدة من تاريخ الجزائر في شكل ملحمة، طرق من خلالها العالمية، وهي رائعة “وقائع سني الجمر” 1974، التي نال بها السعفة الذهبية سنة 1975، خلال مهرجان “كان”، بتوليفة من الممثلين مميزة، منها شيخ نور الدين، حسن الحسني، سيد علي كويرات، ليلى شنه، طه العامري، عبد الحليم رايس، كلثوم، ابراهيم حجاج وغيرهم. وربما التتويج بالسعفة خلال المهرجان يكفي في وصف ما حمله هذا الفيلم.
رحل محمد لخضر حمينة إلى الأبد، بعدما رفع السقف عاليا في مجال السينما أمام المخرج الجزائري، فهل من مجتهد من بعده؟