-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محنة الأمّة مع الظّاهرية الجُدد!

سلطان بركاني
  • 2968
  • 15
محنة الأمّة مع الظّاهرية الجُدد!
ح.م

يبدو أنّ النّقاشات الطّويلة التي تثار حول كثير من مسائل الفقه الفرعية، لن تنتهي، ما دامت الصّدور تضيق لكلّ خلاف أيا كان نوعه، وما دام في الأمّة من يعقد الولاء والبراء على قضايا خلافية لا تمسّ بجوهر الدّين، ويحاكم المختلفين كما لو أنّهم خالفوا في أصول الدّين الأساسية، وما دام بعض الظّاهرية الجدد قد أشهروا سيوف التّجريح والتّصنيف في حقّ من يخالف منهجهم في لزوم ظواهر النّصوص، بغضّ النّظر عن القرائن والأحوال.

نقاشات لم تنته ولا تزال تثار حول حكم التّصوير الفوتوغرافي، يتمسّك فيها الظّاهرية الجدد بظواهر نصوص نبوية، وردت في شأن التّمثيل والمضاهاة، وينزلونها على التّصوير المعاصر، دون مراعاة للاختلاف الواضح بين التّصوير الذي وردت في شأنه النّصوص وبين التصوير الفوتوغرافي الذي لا يعدو أن يكون نقلا للواقع كما هو دون قصد للمضاهاة.. نقاشات أخرى لا تزال تثار حول حكم إسبال الثّياب لغير الخيلاء، وحكم الأخذ من اللحية، وأخرى حول جلسة الاستراحة وعدد ركعات التراويح ووقت صلاة الفجر… ومع كثرة هذه المسائل الجزئية التي تثار بمناسبة ومن دون مناسبة، إلاّ أنّ محنة الأمّة ليست مع من يلتزمون فيها بظواهر النّصوص ويعذرون من يخالفهم في مذهبهم، إنّما هي مع من يشتطّون في اعتبار التمسّك بالظّاهر هو الدّين وهو حبل الله المتين والصّراط المستقيم الذي من خالفه هلك!

ولعلّنا لو بحثنا عن السّبب الرّئيس للشّطط الذي يصاحب الخلاف في كثير من مسائل الفقه الجزئية، لوجدناه إصرار بعض الظّاهرية الجدد على استبعاد الفقه أو حصره في تنقيح الروايات لمعرفة صحيحها من ضعيفها وخاصِّها من عامّها، أمّا فقه الروايات في ظلّ قواعد الدّين وضرورياته وفي ضوء النصوص الكلية ومراعاة الأحوال ومستجدّات الأزمان، فهذا يعدّ عند الظّاهرية الجدد مخالفة للسنّة وعقلانية واتباعا للرّأي والهوى!

أصبح لزوم السنّة عند الظّاهرية الجدد يقتضيالتزام ظاهر الأمر أو النّهي أو الفعل النبويّ،ليس في الأمور التعبّدية المحضة، فحسب، بل كذلك في الأمور التي يعقل معناها وتعرف الحكمة الكامنة خلفها.. يتمسّكون بالظّاهر في مثل هذه المسائل من دون اعتبار للمرادمن الأمر أو لعلّة النّهي التي قد تنتفي في بعض الأحوال، ومن دون مراعاة للباعث على الفعل.. النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ثبت عنه أنّه قال: “فليبلّغ الشّاهد الغائب، فرُبّ مبلَّغ أوعى من سامع”، ما يعني أنّ الحديث النبويّ قد يحتاج إلى وعي وفقه وفهم، ولا يُوقَف عند ظاهره، والصّحابة رضي الله عنهم ثبت عنهم أنّهم نظروا في كثير من النّصوص إلى عللها والأحوال التي نزلت أو قيلت فيها، فهذان مثلا الخليفتان الراشدان أبو بكر وعمر –رضي الله عنهما- اتفق رأيهما على تعليق العمل بإخراج سهم المؤلّفة قلوبهم من الزّكاة، مؤقّتا، عندما استقوى المسلمون واستغنوا عن غيرهم، ولم يقل أحد من الصّحابة إنّ الخليفتين خالفا الآية القرآنية وعمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والعجيب في أمر بعض الظّاهرية الجدد أنّهم عندما يواجَهون بهذه الواقعة المشتهرة، يردّون بأنّ أبا بكر وعمر، من الخلفاء الراشدين الذين أمِرنا باتباع سنّتهم مع سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. لكنْ هل نحن مأمورون باتباع سنّة الخلفاء الرّاشدين في آحاد المسائل، أم في تعاملهم مع النّصوص واهتمامهم بفقهها والنّظر في مدلولاتها والأحوال والوقائع التي تنزّل عليها.

وهكذا أيضا في القصّة المشهورة حينما قال النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- للصّحابة الذين أرسلهم إلى بني قريظة: “لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة”، وحينما أدركتهم العصر في وسط الطريق وخافوا أن يخرج وقتها، صلاها بعضهم وقالوا إنّما قصد النبيّ -صلّى الله عليه وسلم- أن نسرع في المسير ولم يقصد أن نؤخّر الصّلاة حتّى يخرج وقتها، بينما صلاّها بعضهم الآخر في بني قريظة بعد خروج وقتها، وهؤلاء أيضا لم يتمسّكوا بظاهر الأمر النبويّ إنّما تمسّكوا بفقهه، لأنّ النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام- كان لا يزال حيّا بين أظهرهم وقد يكون أمره في تلك الواقعة مخصصا للأمر القرآني العامّ بإقامة الصّلاة في وقتها، ولو سلّمنا بأنّهم تمسّكوا بظاهر الأمر النبويّ، فإنّهم لم ينكروا على الفريق الآخر نظرهم في المراد ومخالفتهم للظّاهر.

لعلّ من أكثر المسائل التي تعطي أوضح الأمثلة على شطط الظاهرية الجدد في القضايا الخلافية، مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر، هذه المسألة التي يصرّ الظّاهرية الجدد على إثارتها كلّ عام، ولو وقفوا عند حدّ الانتصار للرّأي القائل بإخراجها قوتا، لكان لهم الحقّ في ذلك، لكنّهم يشتطّون في تسفيه الرّأي الآخر واتّهام أصحابه بمخالفة السنّة ومخالفة عمل الصّحابة واتّباع الرّأي والهوى! مع أنّ الخلاف في المسألة قديم وقد كان خلافا معتبرا بين المختلفين، يعذر فيه بعضهم بعضا، وكيف لا يعذر بعضهم بعضا وبين القائلين بإخراج الزّكاة قوتا صحابة كرام وأئمّة أعلام، وفي الطّرف الآخر من لا يقلّون وزنا وشأنا عن هؤلاء؟

مع التّأكيد على أنّ الخلاف في المسألة لا يزال قائما ومعتبرا، ولا يضرّ المسلم أن يأخذ بهذا الرّأي أو ذاك، وأنّ ما ينبغي أن ينكر هو محاولة إلغاء أحد الرّأيين وتسفيه القائلين به أو تصنيفهم.. فإنّ الخلاف حول زكاة الفطر في زماننا هذا يفترض أن ينحسر، ونحن نرى النّقود أصبحت عصبا للمعاملات، ونرى واقع النّاس في إخراج زكاة الفطر مالا يفرض نفسه، وبالعودة إلى زمن الصّحابة فإنّنا وبالنّظر والتأمّل نجد أنّ إجماعهم العمليّ –المؤقّت- على إخراج زكاة الفطر قوتا، كان بما أملاه الواقع، والدّليل على ذلك أنّهم تعدّوا المنصوص إلى أصناف أخرى في أماكن وأوقات أخرى، وقال بعضهم بإجزاء البدل، وقال بعضهم بإجزاء القيمة، وعملوا به، قال التابعي أبو إسحاق السبيعي (توفي رحمه الله سنة 127هـ): “أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام” (مصنف ابن أبي شيبة)، فمَن هؤلاء الذين أدركهم السبيعي غير الصّحابة؟ يضاف إلى هذا أنّه لم يثبت عن صحابيّ واحد منع إخراج القيمة في زكاة الفطر. ولهذا عندما تولّى عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- الخلافة واتّسع نطاق استعمال النّقود في البيع والشّراء، أخذ زكاة الفطر نقودا.

الصّحابة المتأخّرون والتابعون وأتباعهم والأئمّة والعلماء الذين أجازوا إخراج القيمة في زكاة الفطر لم يخالفوا حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا عمل الصّحابة، إنّما نظروا إلى العلّة المعقولة في زكاة الفطر وأنّها ليست سدّ حاجة الفقير إلى الطّعام، فحسب، إنّما سدّ حاجتهإلى ضروريات العيش عامّة وكفّ يده وحفظ ماء وجهه عن السّؤال، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم”، والفقير قد يتوفّر لديه الطّعام، وتكون به حاجة إلى ضروريات أخرى، تتنوّع وتستجدّ بتغيّر الزّمان والمكان والحال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
15
  • سلفي جزائري

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    بما أنك تدعوا من تسميهم (ظاهرية جددا) إلى مراعات المقاصد و رحابة الصدر في الخلاف فليكن صدرك رحبا في جدالهم و لا تصادر حقهم في الخلاف ...
    المسائل التي أثرتها في تحقيق وصفك لمن تسميهم (ظاهرية جددا) هي مسائل يرجع حكمها إلى النصوص و ما اشتملت عليه من احكام و علل
    و لا أعرف احدا من هؤلاء الذين تسميهم (ظاهرية جددا) يتنكر للقياس و اعتبار الحال و غيرها من الأمور ..
    مشكلة (مدرسة التلفيق) التي تجترّ مطاعنها أنها فاشلة في إقامة الحجة عاجزة عن تحقيق الأدلة و حسبها من الأدلة دعوى الإجتهاد ممن لم يحقق شروطه و زعم مراعات مقاصد الشريعة ممن يهدف لهدمها

  • ديدوش ديدوش

    خرجوها كمامات وريحو ريصانكم من تصداع الراس

  • said khellil

    لو كان فی اخراج زكاه الفطر اجتهاد و اولویات لكان اولی اخراجها كمامات و معقمات هذه السنه الیس كذلك یا صاحب المقال

  • محمد

    صار كل من هب و دب يتكلم في الدين من الشعبي البسيط في المقهى إلى الصحفي في الجريدة. أنصح بالرجوع إلى كلام أهل العلم في المسألة و عدم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه و سلم.

  • avancer lalour

    محنة الأمة هي مع الجاهلية الجديدة التي عادت وبقوة . فمن يزرع الأشواك لن يقطف عنبا

  • محمد

    كلامك يتضمن انتقادا ضمنيا للظاهرية القديمة

  • فريد الجزائر

    ملاحظة هل في الأزمة التي عشناها وهي أزمة كورونا ألم ترى الناس تتقاتل على السميد و لم تتقاتل على المال هو قوت البلد وهذا دليل على أنه القوت و هو السميد أفضل و اولى من المال

  • أبو زكرياء

    نتفق فيا إتفقنا عليه ويعذر بعضنا فيما إختلفنا فيه ! هذا قصدك.

  • نحن هنا

    الظاهرية الجديدة توظيف استخباراتي وليس اجتهاد فقهي

  • عبد الوهاب بوزحزح

    هؤلاء الذين وصفتهم بالظاهرية الجدد لا يستحقون هذا الوصف أصلا، أين هم من ابن حزم الظاهري، الفقيه والفيلسوف .. إنما هم ظاهرية في الأخذ بنصوص مشايخهم والإعراض عن النصوص القرآنية والنبوية

  • لزهر

    إذا كانت الأقنعة و المكياج تغطي الظاهر
    وكل مايلمع يغطي الباطن
    فهذه حقيقة العالم الذي نعيش فيه
    نندهش عند رؤية هذه الأشياء
    ونصدم عند معرفة الحفيقة.

  • صنهاجي قويدر

    الواقع يخضع للدين وليس العكس زكاة الفطر من الامور التعبديية التي وجب فيها الاتباع وليس الابتداع ،ولكن اصحاب النظر في المعلوم من الدين بالضرورةلا يحلو لهم التشريع الرباني فراحوا يستحسنون حتى الفكر الغربي المنحرف حتى ان بعض الدكاترة المتنورون يتفنون في قصات االشعر على غرار االلشباب من العوام ودفعهم حبهم للخلاف الى التعلق بالادلة الضنية -- عنزة ولو طارت-

  • أحمد الجزائري

    أريد أن أفهم لماذا في زكاة الفطر خاصة تخالفون مذهب الامام مالك رحمه الله ؟ أنصح اخواني الاحتياط في دينهم. أن كان في المسألة خلافا فلتأخذوا لأحوط وتخرجوا من الخلاف. الذي يؤخر صلاة الفجر عن الآذان لم يخالف أحدا وتأكد من دخول الوقت. والذي أخرج زكاة الفطر طعاما أجزأته على كل المذاهب. فهذا هو الأحوط.

  • سني

    الظاهرية تعني بهم السلفية
    استبعاد الفقه تعني به لزوم السنة
    تبررون انحرافكم بحجج واهية هذا المقال يستند الى أدلة لا تناسب المقام. ابحث عن شئ اخر

  • جزائري

    الى كل المذاهب . الا تقرؤون الاية اللتي تتحدث عن الايات المحكمات من القران والايات المتشابهات واللتي نهى الله عن تاويلها ابتغاء الفتنة . الايات المحكمات هن ام الكتاب واللتي اوضحها لانها مهمة . اما ما ليس واضجا فهو ابتلاء للذين يريدون الفتن ولا داعي للخوض فيها الى درجة الاقتتال لان عدم الاقتتال بين المسلمين هو اصل من اصول الاسلام . اصحاب الفتن في كل المذاهب ودون استثناء سنة وشيعة يبحثون داءما عن التفرقة واحتكار الدين . يجب عدم الانسياق وراءهم لانهم منافقون يبحثون عن الفتن بين المسلمين .