-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محنة علماء الطّوائف!

سلطان بركاني
  • 974
  • 0
محنة علماء الطّوائف!

نُكبت الأمّة على مدار قرون مضت بنكبات بعضها أشدّ من بعض، كان من أنكاها نكبة ملوك الطوائف التي بدأت في الأندلس في العام 422هـ، وانقسمت الأندلس بسببها إلى دويلات صغيرة متناحرة، يتآمر بعضها على بعض، ويستعين بعضها بالنصارى على بعض.. يحكم كلّ دويلة منها ملك يبيع دينه وأمّته فداءً لمُلكه! فتوالت الخيبات والنكسات حتى سقطت آخر قلاع الأندلس المسلمة بيد الصليبيين سنة 897هـ!

كان ملوك الطّوائف على خسّة هممهم وهوان أمرهم على النّصارى، يتخيّرون لأنفسهم ألقابا فخمة تصنع لهم مجدا زائفا أمام العامّة، كالمقتدر بالله، والمعتصم بالله، والمعتمد على الله، ومن المفارقات أنّك تجد من يلقّب نفسه بـ”المعتمد على الله” يدفع الجزية لملك قشتالة النصرانيّ ألفونسو السادس ليحميه من ملوك الطّوائف الآخرين! وقد حكى ابن رشيق القيرواني ذلك الواقع بأبيات سجّلها التاريخ بأحرف من أسى، قال فيها:

مِــمَّا يُــزَهِّدُنــي فــي أَرْضِ أَنْــدَلُسٍ * سَــمــاعُ مُـقْـتَـدِرٍ فـيـهـا وَمُـعْـتَـضِـدِ

أَلْقـابُ مَـمْـلَكَـةٍ فـي غَـيْـرِ مَـوْضِعِها * كالْهِر يَحْكي انْتِفاخاً صَوْلَةَ الأَسَدِ.

وفي زماننا هذا، رزئت الأمّة بنكبة أخرى مشابهة لنكبة ملوك الطّوائف، ولكن هذه المرّة في بعض علمائها ودعاتها الذين حقّ لنا أن نسمّيهم “علماء الطّوائف” لأنّهم آثروا رابطة الطائفة على رباط الدّين.. علماء ودعاة يغدق عليهم الأتباع والمريدون ألقابا فخمة لا مصداق لها في الواقع؛ فهذا من “كبار العلماء”، وذاك “علاّمة الحجاز”، وآخر “علامة شمال أفريقيا”، وآخر “حامل لواء السنّة وإمام العصر في الجرح والتعديل”، وهكذا… ومع شيوع استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ، أصبحت صور هؤلاء الدعاة والعلماء ومقاطعهم المرئية، ترفق بأناشيد تمجّدهم وترفع من شأنهم وتجعلهم “أسد الوغى” الذين لا تقف في طريقهم قوة على الأرض! ومن ذلك أنّ أتباع الطّوائف تداعوا هذه الأيام إلى إرفاق فيديوهات لعلماء طوائفهم بكلمات من قصيدة كتبها صاحبها عن كورونا، تقول:

من أنت كيف اقتحمتَ الأرض قاطبةً * حتى سرى منك رعبٌ في نواحيها

أما خشيتَ القُوى الكبرى وما ملكت * من العتادِ، وما ضمّت صَياصِيها

أصبحتَ قوّةَ زحفٍ لا نَظيرَ لها * بينَ العبادِ فلا شيءٌ يُجاريها!

الغريب أنّ هؤلاء العلماء والدّعاة لم يقفوا موقفا في نصرة دين الله أو نصرة قضايا الأمّة يحسب لهم ويكتب في سيرهم، وغاية سعيهم محاولة صهر الإسلام العظيم في بوتقة الطائفة، وحشر المسلمين في إطارها ليُضمَن ولاؤهم وإذعانهم! علماء لا اهتمام لهم بآلام الأمّة وجراحها وقضاياها، ولا كلام لهم في معضلات الدّين، ولا جهد لهم في ردّ الشبهات التي تثار على الإسلام العظيم، معاركهم لا تتعدّى مسائل الفقه الخلافية وقضايا العقيدة الاجتهادية.. والمحنة الأكبر أن تجد فتاواهم وكلماتهم التي تسعى في تقزيم الإسلام تملأ مواقع التواصل وتُعرض ليراها ويسمعها العالمون! ليس لجودة الكلام أو المضمون، وإنّما لنشاط العارضين!

فتاوى وكتابات وكلمات لا تهدي الحائرين من المسلمين، ولا تغري غير المسلمين باعتناق الإسلام، بل طالما كانت سببا في الصدّ عن دين الله؛ فلو أنّها عرضت على ملحد ما ترك إلحاده، ولو عرضت على نصراني أو يهودي أو بوذي ما زحزحته عن دينه قيد أنملة، ولو قرأها مسلم مقهور في أيّ شبر من هذه الأرض ما وجد فيها ما يؤنس فؤاده ويربت على قلبه!

ولو أنّنا تتبّعنا فتاوى علماء الطوائف وكلماتهم التي تجوب مواقع التواصل، لوجدنا أنّها تدبج -في كثير من الأحيان- وفقا لما يطلبه الأتباع ويشتهيه المريدون؛ فتجد عالم الطائفة الصوفية -مثلا- ينافح بشدّة عن البناء على قبور الصّالحين ويستميت في الدّفاع عن الاستغاثة بالمقبورين، ويُعمل معاول التّأويل في نصوص الشّرع، ويتنكّر لعمل القرون الأولى من هذه الأمّة، ولا يلتفت إلى حقيقة أنّه بفتاويه تلك يساهم في دعم الخرافة، ويخدع أتباعه ومريديه، ويسيء إلى الإسلام العظيم ويصدّ عنه عقلاء العالم الذين تنفر عقولهم من الأديان المحرّفة والديانات الوضعية لما فيها من تعلّق بالمخلوقين والتصاق بالتراب.. وتجد عالم الطائفة المدخلية لا يستطيع أن يقاوم الرغبة الجامحة لدى الأتباع في إخراج الأشاعرة والإخوان والصوفية من نطاق أهل السنة، ولا طاقة له بمخالفتهم في تحريم الإنكار العلنيّ على ولاة الأمر، ويراعي حماسهم في مسائل الفقه الخلافية، كتحريم إسبال الثياب، ومنع إخراج زكاة الفطر نقدا! وهو في كلّ ذلك لا همّ له بالإسلام العظيم ولا بما قد تسبّبه فتاواه من زيادة في تشرذم الأمّة لصالح أعدائها، ولا ما يترتّب عن بعضها من حرج يصيب المسلمين في أرض الله الواسعة!

وعلى الرّغم من هذا النتاج الضّحل المؤطّر؛ يستميت أتباع الطّوائف في تلميع شيوخهم وعلمائهم ورفعهم إلى مصاف العلماء الربانيين وشيوخ الإسلام العاملين، وتقديمهم على أنّهم أعلم أهل الأرض في هذا الزّمان، والناطقون الرسميون والحصريون باسم الدّين! ومحاولة إلزام الأمّة باجتهاداتهم المؤطّرة طائفيا! لكن هيهات للأتباع والمتبوعين أن يبلغوا غايتهم، فالإسلام العظيم له رجاله ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!