مخابر تُحطم الأفكار وتَصنع الاستبداد
ليس من الممكن التعامل مع جبهة الصراع الفكري إلا من خلال تفكير جماعي وإسهامات متعددة للتعرُّف على ثغرات هذه الجبهة وتحديد الثغور التي ينبغي حمايتها لكي لا تنهار حصوننا من الداخل بعد أن تم قصفها بالثقيل من الخارج طيلة عقود خلت. وقد سُعِدت لتلك الإسهامات الجماعية التي جاءت على شكل تعاليق إلكترونية على مدار ثلاثة أسابيع كاملة ومكنتنا، مرة أخرى، من التعرف على كيف تحطَّم الأفكار ويُصنع الاستبداد..
تمنيت لو أننا نستطيع أن نعيد الفعالية لجبهة الصراع الفكري التي تخلَّى عنها الكثير، أو نَسوها، في خضم جبهات الصراع الأخرى السياسية والأمنية والاقتصادية المشتعلة، رغم ما لهذه الجبهة الأولى من أهمية إن لم تكن ذات أهمية قصوى حتى وإن كانت نيرانها خفية.
نعيد لها الفعالية من خلال الكتابة والتعليق والنقد والتوجيه، كما حدث مع ذلك التعليق الذي نبهنا في “الشروق أون لاين” إلى مسألة مركزية في هذا المستوى كان قد أشار إليها مفكرُنا الفذ مالك بن نبي – رحمه الله– في مؤلفه (فكرة كومنويلث إسلامي– فصل الفكرة ومراقب الاستعمار– ص 54ـ 55). تقول هذه المسألة إن إشكالية المجتمعات الإسلامية تكمن في كونها تجهل “القيمة الاجتماعية للفكرة” في حين لا يجهلها الاستعمار، الذي أسّس لها جهازا مهمته ترصّد حركة الأفكار في العالم الإسلامي، التي تهمّه “بقدر ما يهمه البترول بل أكثر من ذلك بكثير“.. وهو لا يترصدها في حد ذاته لأنه “ليس من هواة الرقائق الفكرية أو المولعين بها” و“لا هو من زارعي الأفكار أو مكتسبيها” بل لأنه يريد أن “يحافظ على احتكاره للأفكار مفضلا على ذلك بيع أشيائه لنا“، “لذلك تجده، فضلا عن عدم اكتفائه” بالاستعلام عن حركة الأفكار، باعتبار هذا شأن االفيلسوف… يعمل على “التخلص من الأفكار التي تضايقه، والانحراف بها عن أهدافها وتوجيهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه“.. وهنا بيت القصيد: أي إن الاستعمار لا يكتفي باحتكار الأفكار بل يعمل على تحطيم كل فكرة بناءة في مجتمعاتنا بما في ذلك فكرة “الديمقراطية” التي يسعى إلى ترويجها عبر العالم باعتبارها غايته القصوى أو هي نهاية التاريخ…
هذه الفكرة لا يقبل أن تُحقق غايتها في العالم الإسلامي بالرغم من أنها فكرته بل يعمل باستمرار على تشويهها وتحطيمها خلافا لما يحدث عنده، حتى نكفر بها ونَتيه في عالم البحث عن أفكار تُنقذنا مما نحن فيه؛ فلا تراثنا الإسلامي ينفع– حيث يحاربه بكل الوسائل باعتباره أصوليا ومتطرفا وسلفيا ثم إرهابيا– ولا هو يقبل أن نستنجد بنموذج نافع من تراثنا، ذلك أن غايته هي أن لا نتحرك وفق أي نموذج من الأفكار، أن لا نقتبس ولا نبتكر ولا نطور أيّ منظومة أفكار، بنفس المنهجية التي تمنعنا من اقتباس أو تطوير أو ابتكار أيّ منظومة دفاع جوي أو أرضي أو بحري…
لقد نبهنا إلى هذا تعليق يقول: “إن الإمبرياليين حتى لا نسميهم غربيين يعرفون أن الديمقراطية أساسية لتنمية الشعوب، لذا يعملون على تغليفها بكل الأوساخ؟ لكي يدفعونا دفعا إلى كرهها، ما يجعلنا أمام ضرورة الاستمرار في حبها، حتى نمنعهم من تحقيق مأربهم“… إن هذا يعد بحق جانبا من الصراع الفكري الذي نعيشه اليوم، وإلا كيف نفسر تناقض الغربيين مع أنفسهم بشأن النتائج التي تحققها الديمقراطية؟
ولعل هذا ما حاول “أمين نور” في كتابه “الشرق والغرب، في موعد مع سايكس بيكو جديد” “L_orient et l_occident à l_heure d_un nouveau sykes-Picot“ أن يوضحه بشيء من التفصيل، حيث أشار في معرض تعليقه هو الآخر على مقالنا السابق إلى أهمية التطرق إلى حوارٍ ومحاضرة نُشرا في كتابه: الحوار مع اللورد لوثيان الذي تحدّثنا عن محاضرته الناقدة للغرب “كيف خسر الغرب الشرق الأوسط، صرخة من قلب لورد بريطاني“، والمقالة للسفير الأمريكي “شاس. و. فريمان” “Chas W.Freeman,jr“ باعتبارهما يبرزان معا، الكثير من الحقائق عن السياسة الغربية تجاه بلداننا.
وقد عدنا بالفعل إلى محاضرة السفير الأمريكي التي ألقاها يوم 21 جويلية 2014 بمجلس سياسة الشرق الأوسط وكانت بعنوان: “السياسة الخارجية لأوباما ومستقبل الشرق الأوسط“، كما عُدنا إلى حوار اللورد البريطاني الذي أجراه مع مؤلف الكتاب بتاريخ 5 جويلية 2014، ما الذي لاحظناه؟
ـ في محاضرة السفير الأمريكي هناك تأكيدٌ على ازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر باختيارات لها علاقة بالنموذج الفكري أو السياسي المعتمد تجاهنا، حيث يقول: “عندما تسفر الانتخابات عن حكومات نعترض عليها، أو يعترض عليها حلفاؤنا، تسعى الولايات المتحدة إلى قلبها واستبدالها بمستبدين مهذَّبين“… “إن إرادتنا القائمة على تخليص المنطقة من الديمقراطيين المقلقين لنا، أدت بالتأكيد إلى إرضاء إسرائيل وأصدقائنا في الخليج العربي، إلا أنها في ذات الوقت أساءت بشكل كبير إلى جدية ادعاءاتنا القيمية، (يقصد الحرية والديمقراطية) لقد أدت هذه السياسة إلى عدم إنتاج أيّ ديمقراطية، بل بالعكس، أنزلت نحو الأسفل بعضُ التجارب قبل أن تتمكن من أن تمد لنفسها أيّ جذور“. ويقدم مثالا عن ذلك التجربة المصرية حيث بمجرد أن حركت الأمل في يقظة ديمقراطية عربية وانتخبت حكومة إسلامية كفأة، يقول، تحولت إلى دكتاتورية عسكرية في حالة غرق، لا تختلف عن الأنظمة الاستبدادية الأخرى إلا بتلك المحاكاة المثيرة للسخرية لدولة القانون التي تطرحها على الساحة“، وهكذا الأمر مع بقية البلدان حيث الزعم بنشر الديمقراطية لا يتم إلا حيث كان الغزو الأمريكي سابقا كالعراق وأفغانستان أو كان الكره الأمريكي واضحا كفلسطين وإيران وسوريا، “أما بالنسبة إلى البقية فإننا– يقول السفير الأمريكي– ننتقد، ولكننا نترك اليد طليقة لقادة بالوراثة، دكتاتوريين، جنرالات وحتى صعاليك“.. ويعتبر أن ذلك هو نتيجة موقف واضح من النخبة الأمريكية التي تفضل “الروايات على التحليل المدعم بحجج (بالنسبة إلى أوضاعنا) وتخلط العقوبات والإيحاءات العسكرية بالدبلوماسية وتخال أن أفضل طريقة للتعامل مع أجانب (نحن) هي قتلهم وفي نفس الوقت قتل أصدقائهم وعائلاتهم عن طريق استخدام روبوهات طائرة” (طائرات بدون طيار)…
هكذا هو تقييم الغرب بنفسه لأسلوب التعامل مع الشرق اليوم وخياراته في الجوانب السياسية والفكرية، فكيف بنا لا نقوم بتقييم سياسته بأنفسنا والتعرّف عليها من خلال زاوية نظرنا الفكرية أم على قلوبنا غشاوة؟ أم إننا ننتظر عودة جديدة للغرب يوقظنا؟
لعل هذا هو معنى السؤال الذي طرحه أمير نور على اللورد لوثيان: ألا يتعلق الأمر بمحاولة جديدة من الغرب “لاستعادة” الشرق الذي ضاع منه؟ أليست مثل هذه المواقف سوى تعبير عن واقعية سياسية جديدة وليست أبداً صحوة فكرية للدفاع عن هذه المنطقة؟ ويجيبه اللورد لوثيان بالقول: “رفضُ قيم الآخر والشك فيها هي الأسلحة التقليدية والسهلة للنقد.. عندما استخدمت مصطلح “استعادة” فقد أردت العودة إلى القلوب، إلى الجوانب الروحية، وإلى الثقة التي اكتسبناها بلا شك في سنة 1916 والتي أضعناها بسبب ما قمنا به بعد ذلك“.
اعترافٌ جميل من الطرف الآخر، يكشف بحق بعض النقاط الغامضة في جبهة الصراع الفكري، لست أدري هل ينبغي علينا أن نعتبره نقاطا مضيئة ينبغي السير على هديها لإعادة رسم طريقنا نحو المستقبل؟ أم هو مرة أخرى تمويهٌ يدخل ضمن عمل مخابر الغرب التي لا تتوقف عن التفكير بشأننا إنْ رغبة في الالتقاء أو سعيا إلى السيطرة والانتقام؟ ليس من السهل تفكيك ذلك.