-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مذكرات المُجاهد الرائد عمّار ملاّح (2/2)

لمباركية نوّار
  • 2574
  • 5
مذكرات المُجاهد الرائد عمّار ملاّح (2/2)
ح.م

في السنوات الأولى من بعد استرجاع الاستقلال الوطني، تولى الرائد عمار ملاح عدة مناصب قيادية في مؤسسة الجيش الوطني الشعبي. ففي سنة 1963م، نصب قائدا للناحية العسكرية الخامسة بباتنة. وهو من أشرف على تسليمها في أفريل 1964م إلى الرائد الشاذلي بن جديد بعد نقلها إلى مدينة قسنطينة وضم بسكرة إليها. ومن بعدها استدعي لاستخلاف العقيد شعباني على قيادة الناحية العسكرية الرابعة بعد تحويل مقرها من بسكرة إلى ورقلة، وقضى بها قرابة سنتين يصارع فيها المشكلات بسبب قلة الإمكانيات وشح الموارد. ثم ذهب على رأس مجموعة من الضباط للاستفادة من دورة تكوينية في أكاديمية “فرونزي” بالاتحاد السوفياتي سابقا. ويسجا انطباعه عن هذه العملية التكوينية قائلا: (درست في الأركان العامة في الاتحاد السوفياتي سنوات 1965 و1966 و1967، وأتممت هذه الدراسة. لكن، ورغم ما لاحظته عن هذه الدراسة العسكرية، فإني نلت الكثير من المعلومات العسكرية التي كنت افتقدها كمجاهد. وكان كل أملي أن أطبق هذه المعلومات العسكرية مع جيشنا الوطني الشعبي الذي هو بأشد الحاجة إليها)(ص: 32). وبعد عودته، ألحق بقيادة الأركان العامة، وكلف بالتنظيم. ووقتها، كان قيادة الأركان العامة هو العقيد الطاهر الزبيري الذي بوأه الرئيس أحمد بن بلة هذا المنصب في غياب هواري بومدين الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع. ويشير صاحب المذكرات إلى أن العقيد الطاهر الزبيري قبل ترشيحه لهذا النصب على مضض، وبعد أن وجد التشجيع منه شخصيا ومن الرائد محمد الصالح يحياوي. ومن باب التضييق عليه ومحاصرته، والتقليص من صلاحياته، أجلسه هواري بومدين في مكتب في وزارة الدفاع الوطني، وجرده من مسؤوليات التسيير. وكانت الأوامر والتعليمات تصدر عن هواري بومدين ويطبقها العقيد شابو من دون إشراك العقيد الطاهر الزبيري، حسب ما أورده صاحب المذكرات.

ظهرت علامات الجفاء تحوم وتتكاثف، وبدأ التململ في قيادة الأركان العامة بعد أن أصبح العقيد الطاهر الزبيري محاصرا ويعيش في جو من العزلة المقلقة. ويشير الرائد عمار ملاح إلى الحادثة التي جعلت مياه سيل الخلافات تبلغ زباها وتصل مداها الأعظم في السطور التالية: (في اجتماع بوزارة الدفاع تحت رياسة بومدين، وهو الاجتماع الذي شمل قادة الأركان العامة وقادة النواحي ومديري وزارة الدفاع الوطني، طرح الزبيري مشكلة قيادة الأركان العامة وعملها ومسؤوليتها في الجيش. وكان الرد الذي تقدم به بومدين غير مقنع. وقال الزبيري: كيف يعطي الرائد الأوامر للعقيد. وأجابه بومدين:”لا تغضب، يا الطاهر”)(ص: 34). وحسبه، فإن هذا الاجتماع كان بمثابة الشرارة أوقدت نار الخلافات جهرا.

استطاع الانشغال بحرب 1967م بين الجيوش العربية وجيش الكيان الإسرائيلي الغازي لأرض فلسطين أن يخفف من لهيب التنافر الحاد بين الطرفين، ولكنه لم يتمكن من القضاء عليه وردمه بصفة نهائية. وبمجرد انتهاء هذه الحرب، لاحت شهب النزاع من جديد، ويعلق الراائد عمار ملاح عن ذلك بالقول: (بعد الهزيمة الشنعاء للجيوش العربية، عاد من جديد تدهور الأوضاع في جيشنا، خاصة القيادات: الأركان العامة وبومدين)(ص:34).

يعتبر الرائد عمار ملاح القيادي العسكري السامي الوحيد الذي جمع بين المشاركة في العملية الانقلابية التي قادها الطاهر الزبيري ضد الرئيس هواري بومدين في يوم 14 ديسمبر 1967م والتخطيط لمحاولة اغتيالة المنفذة أمام قصر الحكومة في 25 أفريل 1968م من طرف بورزان محمد الطاهر وزروال موسى. وأشير إلى أن المفكر الكبير مالك بن نبي قد استوقفت هذه العلمية الأخيرة قلمه، ونشر عنها مقالة بعنوان: “العبرة من جريمة” تحملها الصفحات الأخير من كتابه: “من أجل التغيير”.

بعد فشل المحاولة الانقلابية بسبب سوء التخطيط والارتجال واستشراء التردد، وتفرق جمع الانقلابيين بين هارب في الجبال بحثا عن مغادرة التراب الوطني ومستسلم ومن انقطعت أخباره منذ تلك اللحظ انقطاعا أبديا إلى اليوم كالملازم عبد السلام لمباركية قائد فيلق المشاة إلى جاء من مدينة مليانة إلى مكان المواجهة التي كانت ساحة العفرون مسرحا لها، فرض على الرائد عمّار ملاح التخفي عن الانظار والدخول في حياة سرية صارمة. واستطاع أن يعود مع زميله بوقطف العيد إلى العاصمة في رحلة مجازفة عبر القطار. وكان ينتقل بين دور معارفه الذين يثق فيهم بلقاسم ملاخسو وابن دادة شيخي ومبارك بتيرة لمدة أربعة أشهر كاملة. لا يتحرك إلا متموها ومتحصنا بكل أسباب الحيطة والحذر حتى لا ينكشف أمره، وكان دليله الأمين هو بورزان محمد الطاهر. ولكن السلامة لم تدم له بعد محاولة الغدر بالرئيس هواري بومدين، بسبب تكثيف البحث بمجرد أن عرف أنه هو الرأس المدبر لها. ويتحدث عن لحظة إلقاء القبض عليه قائلا: (كنت في مخبأ في منزل قرب السفارة الأمريكية بحيدرة، وطوّق كل الحي. وفي النهاية، اُكتشف أمري، فألقي عليّ القبض من طرف مصالح الأمن الوطني الذين يترأسهم صالح فيسبا في الثاني ماي 1968م). وما لا شك فيه أن توقيفه كان بمثابة صيد ثمين.

بمجرد إلقاء القبض عليه، زج بها في دوّامة من العذاب الجسدي والنصب النفسي المؤلمين في مصالح الأمن، وسلط عليه أبشع ألوان التعذيب حتى توهم أنه لن ينجو مما هو فيه من تنكيل ومشقة، ولن تكتب له السلامة وطول العمر. وتواصلت جولات التعذيب لمدة اثني عشر يوما بلا انقطاع أو تخفيف. وفي لحظة انفراج خاطفة تحدث إلى أحد حراسه قائلا له: (أخبر أهلي في باتنة أنهم من دون شك سيقتلونني، وسيأتي يوم أطلب فيه أن أدفن في مقبرة باتنة)(ص:43). وبعد أن تسلمته مصالح الأمن العسكري، قدم له العلاجات حتى شفي واسترجع عافيته، ثم جرى التحقيق معه بلا ضغط أو إكراه، وشعر بقليل من الراحة والاطمئنان. وبعدئذ، نقل إلى سجن البليدة، واستبدل اسمه برقم 4850. ثم أعيد سجنه في قبو غير ملائم بمصالح الأمن العسكري. وهناك لاقى قساوة وخشونة في المعاملة من طرف ملازم مسؤول عن حراسته. وذات يوم، تفاجأ بزيارة العقيد عبد الله بلهوشات له. ويعلق عن هذا الموقف متسائلا في حيرة بالقول: (قدم لي العقيد بلهوشات الضابط الملازم بأنه مجاهد… أيعقل أن يقوم من يحمل صفة المجاهد بهذا العمل من عذاب وإهانة وتقييد بالسلاسل؟)(ص:46).

في شهر جويلية من سنة 1969م، فتحت المحكمة الثورية ملف القضية الأولى التي تدور حول المحاولة الانقلابية، وصدر الحكم ضده بالإعدام. وكان عدد المتهمين المحكوم عليهم بنفس العقوبة ثمانية منهم اثنان حكما عليهما غيابيا، وهما العقيد الطاهر الزبيري والملازم عبد السلام لمباركية. وفي شهر أوت من نفس السنة، تداولت المحكمة قضية محاولة اغتيال الرئيس هواري بومدين، وضاعفت حكم الإعدام إلى إعدامين في حق الرائد عمّار ملاح. وفي سنة1972م، خففت أحكام الإعدام إلى المؤبد.

أمضى الرائد عمار ملاح سنوات سجينا مع زملائه في سجن “سيدي الهواري” بوهران. وحوّل في شهر ديسمبر 1972م إلى سجن تازولت قريبا من باتنة، وأصبح يحمل الرقم: 4188. ولا ينسى صاحب المذكرات أن يكيل عبارات الثناء الجميل إلى السيد زروقي مراقب السجون الذي قدم لهم مساعدات خففت عنهم وحشة السجن، وبددت شيئا من ظلام الزنازن. وبعد أن نسجت قلاقل عارية من الصحة حول انكبابه على التخطيط للفرار لو توفرت له الفرصة المناسبة واستغلال معرفته ببعض الحراس المجاهدين، نقل مع زميليه عيسى بخوش وصالح قمعون إلى سجن البرواقية، في حين أرسل السجين معمر قارة إلى سجن مدينة الشلف. وأصبح في محبسه الجديد يحمل رقم: 6490.

مع مرور السنوات، غادر معظم المساجين المتهمين في القضيتين السجون بعد إتمام العقوبة أو صدور العفو في حقهم، ولم يبق سوى أفراد زمرة “الخصوصيين”، كما كانوا يسمونهم، والمؤلفة من: الرائد عمار ملاح وبورزان محمد الطاهر وألطيّف مبروك ومعمر بشاح. ولم يجدوا من خلاص إلا بمضاعفة جدية التفكير في عملية فرار لإشاعة قضيتهم. ووجدوا التجاوب مع السجين قحلوز الذي يشغل في مطبخ السجن، وقاموا بتغيير القفل بآخر شبيه به في غفلة من الحراس الذين لم يتفطنوا لذلك. وباءت المحاولة الأولى للفرار بالفشل، ونجحوا في المحاولة الثانية لتي تلتها بعد استسلام الحارس الأول ومقاومة الحارس الثاني الذي أصيب بجروح خطيرة في جسمه. واستولوا من مركز المراقبة على كل الأسلحة التي صادفوها في طريقهم.

بلغت عملية الفرار شأوا من المغامرة التي لا تحتمل؛ لأنها جرت في فصل الشتاء. وكانوا مضطرين إلى قضاء جل أوقاتهم مختبئين بين بطون الوديان. ولما قرروا الخروج منها خشية أن تجرفهم السهول وقعوا أسرى بين أيدي جمع من المواطنين قرب قرية العامرية “المدية”، وأشبعوهم ضربا وسحلا وطبقات الوحل متراكمة على ألبستهم. وجرى تسليمهم إلى الدرك الوطني لمدينة المدية الذي أنزلهم في بيت معزول تابع للثكنة العسكرية تحت حراسة مشددة. ثم التحق بهم زميلهم بورزان محمد الطاهر إالذي وصل جبال الأوراس طالبا النجاة لنفسه. ولم ينس الرائد عمار ملاح أن يسترجع لحظة فارقة تحمل دلالات يقول عنها: (… وفي آواخر 1978، شاركنا الدرك الوطني الوقوف دقيقة صمت إثر رحيل الرئيس بومدين) (ص:53).

في بحر سنة 1979م، أسدل الستار نهائيا عن القضيتين اللتين شارك فيهما الرائد عمار ملاح، وأطلق سراحه وزملاءه بعد أن تناولوا وجبة الغداء في مركز قيادة الدرك الوطني بالبليدة. وفي الواحد والثلاثين أكتوبر 1983م، وقّع الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد مرسوما يخصهم ويقضي بتمكينهم من إعادة الاعتبار الذي شمل رتبهم العسكرية ومنحة التقاعد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • جزائري.

    عفوا خطأ "السلطة" وليس "الصلطة" وحقيقة الامر أن أحداث التي حدثت بداية استقلال الجزائر أقرب الى "الصلطة" منها الى "السلطة" !!

  • جزائري.

    أنا أشاطر الاخ المعلق "أ.د/ غضبان مبروك" ...لانني قرأت الحلقة الاولى من هذا الموضوع أين تعرفت على المجاهد عمار ملاح ,منشائه , تعلمه و إلتحاقه بالثورة المجيدة..... لكن صدفتا وسريعا إنتقلت الى ما بعد الاستقلال وما حدث من أحداث مؤلمة في الصراع المخزي على الصلطة وكانت منطقة الاوراس عموما هي ضحية هذه الاحداث حيث شوهت صورتها الثورية وحوصرت لسنوات من طرف استخبارات بومدين لهروب الطاهر الزبيري إليها ثم الخروج الى تونس ...

  • HOCINE HECHAICHI

    مع احترامي للمجاهد عمار ملاح ولكن اعتبر "حالته" مثالا حيا على الصراع على السلطة وعلى نظام الحكم المتبنى في الجزائر منذ الثورة وأساسه الاستقرار المبني على التوازن الجغرافي والقبلي : على المستوى الوطني: بالتوازن الجهويي وعلى المستوى المحلي - بالتوازن"العرشي", أي لامكان للديمقراطية "اليونانية" في الجزائر .

  • أيوب

    لاأعتقد أن هناك من الشباب الجزائري مواليد التسعينات ....والألفية....من يؤمن أو حتى يستسيغ ماتسمونه(الجهاد والمجاهدين وما شابه ذلك...)..بل العكس تماما..هم يحملون صورا فظيعة عن هؤلاء(المجاهدين) صور السرقة ونهب المال العام والاستبداد وكل الاعمال الشريرة التي يتصف بها الخارجون عن القانون...الجهاد اصبح مرادفا عند الغالبية من هؤلاء بالفساد والعصابات الاجرامية...كارثة..اليس كذلك....لقد اصبح البعض يخشى من الحديث عن ماقبل 1962....

  • أ.د/ غضبان مبروك

    أين المعارك التي تم التخطيط لها أو خوضها والنجاح أو الفشل فيها. اما أن المذكرات ضعيفة أو أن من تولىتلخيصها نسي أو تناسى هذا الجانب المهم من المذكرات العسكرية . لقد قرأت للمرحوم محمد الطاهر بورزان واستفدت كثيرا من كتابه وأعجبت به أيما اعجاب خاصة عند تناوله لموضوع 3 أولوية العسكري على السياسي" وببساطة ودون تكلف أبرز وجهة نظره. كما تصدى لمؤتمر الصومام1965 وكيف غير في تقديم الجبهة على الجيش. هذا الذي يريده شبابنا أن يتعلمه.