مسابقات الدكتوراه.. ملاحظات لابدّ منها
يوجد ضمن المناصب الجامعية العلمية والبيداغوجية منصبان كبيران ورئيسان ومهمان لسير ونجاح العملية العلمية والتربوية والتعليمية معا، فهذان المنصبان الخطيران علميا وتربويا وتعليميا ومنهجيا يتقاضى المعيَّن فيهما مكافأة مالية تعادل مسؤول المسار أحد عشر ألف دينار تقريبا في الشهر، ولمسؤول المادة عشرة آلاف دينار في الشهر، وتدخل ضمن حسابات التقاعد.
وتقضي المعايير العلمية والتربوية والتعليمية والقانونية –حسب القوانين واللوائح المعمول بها وحسب معايير التصنيف- أن الأستاذ المختار للتمتع بامتيازات هذا المنصب وبمكافأته المالية والأدبية، أن يكون الأجدر والأقدر بين مجموع أساتذة التخصص، ومن النوعية المتميزة علميا وفكريا وتربويا وأخلاقيا ومهنيا وتجربيا وتراكميا.. بين صفوف أساتذة التخصص، ممن يتميزون بكونهم يحوزون أعلى الدرجات العلمية من جهة، ويتبوؤون المناصب الأعلى في سلم الترقية (أستاذ التعليم العالي في التخصص)، وأن يكونوا من الأساتذة المتميزين بنوعية وكثرة ووفرة الإنتاج العلمي في التخصص المطلوب في التعيين، إذ يجب أن يتم اختيارهما وفق الضوابط والقوانين والمراسيم المحددة لشروط تولي هذا المنصب النوعي الحساس والخطير.. وليس كما هو جارٍ العمل به في جامعاتنا البائسة وغير المصنفة، لأن استحقاق ذلك المنصب وتوزيعه على مستحقيه وتولية الجديرين به وبتوليه علامةٌ صادقة على الشفافية والمهنية والانضباط بالمعايير والمقاييس العلمية والتربوية.. التي ترقى بالجامعة إلى مصاف التصنيف المحلي فالعالمي.
ذلك أن وظيفتهما تتلخص في القيام بدورهما العلمي والتربوي والتعليمي والتوجيهي والتقويمي، وفي المساهمة في وضع البرامج والمفردات الدقيقة لمواد التخصص، كما يكمن دورهما أيضا في السهر على وضع أسئلة مسابقات الدكتوراه، واختيار وانتقاء الأساتذة الجدد المقبلين على التوظيف في الجامعة في التخصص ذاته.
وهذه من أخطر المهام التي تُلقى على كاهل هذين المنصبين التخصصيين الحساسين لدى الجامعات التي تحترم نفسها ومكانتها بين مجموع مؤسسات الدولة التي تسير وفق معايير الشفافية، هذا إن كانت موجودة أصلا، وتسعى للتصنيف المحلي والمغاربي والإقليمي العربي والإسلامي.. فتختار لمن يشغل هذين المنصبين المحترمين من هو أهلٌ له، مراعية في ذلك الضوابط القانونية والعلمية والقيمية والمهنية والأخلاقية.. حتى يؤدي أصحابهما دورهما أحسن تأدية، وللأسف الشديد ما زال منح هذا المنصب في جامعاتنا لا يخضع لهذه المعايير المُكافئةِ لهذه المهام التربوية والمزايا المالية.
وقبل أن أذهب –وقد مللت من نقد الوضع الجامعي المتعفن الذي لا تريد السلطة تطهيره من الفاسدين والمفسدين- لإظهار عَوار وسوءات الواقع الجامعي المقرف.. أودّ أن أبرز حساسية وخصوصيات تخصص المسار أولا، ثم حساسية تخصص المادة ثانيا، أثناء عملية ضبط وإعداد وتسطير البرامج والمفردات العلمية التخصصية، ثم متابعتها ومدى صدقية وفاعلية تنفيذها في الواقع التعليمي والتربوي الجامعي اليومي والأسبوعي والفصلي والسنوي (المحاضرات، التطبيقات، المطالعة، المتابعة، التقييم، التقويم..)، ووضع تقرير عما تحقق منه، وما تعذر تنفيذه وتحقيقه مع ذكر الأسباب والموانع والأعذار، ووضع خطة مستقبلية لتجنُّب سلبيات المرحلة السابقة، وتقديم التقارير الدورية للمجلس العلمي وللجان العلمية لكل قسم..
وهذا العمل كبير ومهم وحيوي لسير عملية التكوين والتعليم والتأطير الجامعي الصحيح. ومن هنا وجب أن يُعيَّن فيه خيرة المتخصصين من جهة، وأن يكون تداوليا غير احتكاري ولا خلودي وتأبيدي كما هي الحال البائسة جدا في الكثير من الكليات والجامعات الهزيلة التي تمنحه وفق الأعراف السائر العمل بها في الإدارة الجزائرية، القائمة على المعارف والصداقات و..؟
وهذا العمل العلمي البحت، أو هذه المهمة التربوية والتعليمية والمنهجية والأخلاقية والمهنية الجبارة لا تحسنه إلاّ نوعية متميزة من مجموع أساتذة الكلية أو القسم، أو المعهد، أو الجامعة، ولكنه اليوم –للأسف- متاح للكل ممن له صلة قرابة، أو نفوذ سلطوي، أو لوبي عصبي، أو تواجد إثني، أو قبلي عشائري بغيض ضيق ومقرف، أو سياسي خادع ومهرول بين يدي الزيف السلطوي المزعوم، أو إيديولوجي، أو استركابي.. وما على الجهات الوصية إلاّ أن تُرسل لجان تحقيق للتعرف على حجم وبؤس التلاعب بالمناصب النوعية من جهة، وعلى إهدار المال العام وتوظيفه لخدمة مصالح وفئات هشة وطنيا وأخلاقيا من جهة ثانية، وعلى تبعات ترك هذا المنصب النوعي في يد الهمل من الأصناف المذكورة آنفا.. حيث دورهم الفعال في الإحاطة بالمواد والمساقات العلمية والمنهجية، فضلا عن تفاصيل التخصص وجزئياته، ومراقبة عملية صياغة امتحانات الدكتوراه، إذ يُشرف هؤلاء على ضبط بنية الموضوع أو الإشكالية المراد طرحها، ومنهج الإجابة الدقيق والسليم والواضح وغير القابل للتأويل، ووضع سلم التنقيط التقريبي للإجابة النموذجية المتوقعة، وغيرها من المهام الأخرى، كإقامة الأيام الدراسية بين أساتذة القسم والتخصص، والاتفاق على طرق التدريس ومناهجها وتعديل وتقديم وتأخير بعض المفردات أو دمجها أو اختصارها.. أومتابعة مجريات الحصص التطبيقية تلك الثروة الزمنية والمعرفية الضائعة في الفراغ والتفاهات..
ويتم كل هذا التوفيق والنجاح في ضبط البرامج والمفردات والمواد والمناهج.. إن تولاها القديرون الجديرون، القمينون على صياغة أفضل وأدق أسئلة تقدم في مسابقات الدكتوراه النزيهة والشريفة والتنافسية لاختيار النابهين والأذكياء والباحثين المستقبليين، وليس الآلاف ممن دلفوا عبر الحفظ والترتيل وشرب المعارف المحفوظة والجامدة.. ولن يتأتى هذا كله، إلاّ في حال تعيين الأكفاء القادرين المخلصين المتمكنين من هذا المنصب النوعي، فهم شرفاء وعلماء استحقوا هذا المنصب وهذا الأجر بجدارة وحلال، وإن كانوا قد –وما أكثرهم بل جُلهم والتحقيقات ستكشف هذا المجال الخفي لنهب المال العام وشراء الذمم الرخيصة التي تساوي مليون أو مليوني سنتيم- وصلوا إليه بتلك الطرق الشنيعة، فهم مجرد أراذل ومجرمون ولصوص.. آكلون للحرام متمرغون برغام السحت، مضيِّعون لأموال الأمة وجهد وحاضر ومستقبل الأمة والأجيال..
فأين حظ برامجنا ومساقاتنا العلمية الجامعية من خلاصة عقول النابهين المحتلين لمثل هذه المناصب النوعية؟ وأين حظ مسابقات الدكتوراه من عبقرية ونباهة وفطنة وعلم القائمين على هذه المناصب النوعية في صياغة أسئلة مسابقات الدكتوراه؟ لأن المطلع على أسئلة الدكتوراه التي أرسلها لي طلابي من أنحاء الجامعات الجزائرية في الكثير من التخصصات بمناسبة إجراء هذه المسابقات في الفترة الممتدة بين شهري أكتوبر ونوفمبر تكشف عوارا علميا كبيرا، ومنهجيا خطيرا، ومعرفيا جليلا.. ولعل أهمه التالي مع الاحتفاظ بالأمثلة والأسئلة البائسة أمام لجان التحقيق إن أرادت الإصلاح:
1– عدم وضوح مكونات وأساسيات المساق العلمي معرفيا ومنهجيا ومصطلحيا في ذهن وعقل القائمين على وضع الأسئلة، فضلا عن هشاشة تصوراتهم لمفردات البرنامج والمقياس، ما جعلهم يرتبكون في صياغة سؤال دقيق وإشكالي تحتوي إجابته وتتضمن على (أسس هذا العلم ومنهجه ومصطلحاته الخاصة)، وهذا بسبب غياب المتأهل المهيمن على روح التخصص وصياغة السؤال.
2- قِدم معلوماتهم وماضوية معارفهم، التي نسجت عليها العناكب خيوطها الباهتة، والتي ترجع –للأسف- إلى عقدين أو ثلاثة عقود، أو إلى مراحل الدراسة، لأن الكثير من الأساتذة الجامعيين لا يقرأون، ولا يكتبون، ولا يفكرون، ولا يبحثون عن الجديد الذي طرأ وجدَّ في التخصص، وما أكثر ما جدَّ في التخصصات.
3– اعتيادهم على طرح الأسئلة المباشرة والسطحية والبسيطة من أجل رفع أعباء التصحيح عن أنفسهم طيلة سنين تواجدهم في العمل، وبعدهم عن أسئلة المقالات التي تحمل الإشكاليات العلمية، والتي تُعوِّدُ الطالب على سائر العمليات المنهجية من تفكير وتحليل وتفسير واستنباط.. وبالتالي تجتمع قلة المعرفة، وماضويتها، ورتابة مسارهم التعليمي، وعدم رغبتهم في الطموح، وغياب الرسالية، وعدم اكتراثهم باختيار النابهين من الطلبة في مسابقات الدكتوراه، الذين تعوَّدوا على معالجة الإشكالات ومناقشتها.. وتمرَّسوا في القراءة والبحث والتفكير.. إلى تعرُّض هذه المسابقات للكثير من النقد في الصحف المكتوبة والوسائل المسموعة والمرئية والوسائط الإلكترونية والمباشرة..
4 – تراجع دور أستاذ المسار والمادة وعدم قدرته على التدخل والسيطرة لكونه بعيدا أو غريبا أو ضعيفا في التخصص، وربما لا علاقة له بالتخصص.. فتجد مسؤول مسار في علم من العلوم، يهيمن على تخصص علم آخر، كما تجد أضعف أستاذ في التخصص هو مسؤول المادة، وهكذا تسير الأمور من هنةٍ إلى هنةٍ، ومن ضعف إلى ضعف، ومن تراجع إلى تراجع.. حتى تنهار الجامعة وتُمسُّ آخر ما تبقى من حصون مصداقيتها.. إلى أن يتدارك الشرفاء الأمر، أو يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فكيف تريدون مسابقات دكتوراه ناجحة ومسددة والحال كما ترون؟ وكيف تريدون مسابقات دكتوراه يُختار فيها الأذكياء النابهون ولا تجلب العوار والهمل من الطلبة والواقع كما تقرؤون وتسمعون وتشاهدون؟
والخطاب يوجه اليوم وبكل قوة وشجاعة وصدق وإخلاص إلى الجهات الوصية عموما، وهنا نعني صراحة كل أجهزة ومؤسسات الدولة الجزائرية الحاضرة الغائبة، وإلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشكل خاص، التي تُطلق يد رئيس الجامعة ليُشرِّعَ ويصنع ما يشاء دون رقيب ولا متابعة ولا تقييم ولا تقويم ولا محاسبة.. وهذا أمر مهمّ وخطير له تبعاته، حيث يكافئ المستقيم الجاد، ويحاسب المفسد العابث.. لأن هذه المؤسسات ملك للأمة الجزائرية المقهورة التي تنتظر أن يتعلم أبناؤها ويتكونون خير تكوين، وليست ملكا لمن يتعين رئيسا فيصير ملكا مطاعا عليها، فهو رئيسها بالقانون والمهنية والفضيلة والأخلاق.. وليس بقيم ومبادئ دولة ومرحلة الفساد.. إلاّ تفعلوه تبقون في مؤخرة الركب، وتصيرون لعبة بيد الأقوياء القادرين.. وساعتها لاتَ حين مندمِ.. اللهم اشهد أني بلغت.