.. مطلوب أقوى شرعيّة لرئيس الجمهورية
كل المؤشرات الدعائية توحي أنّ الحملة الانتخابية الرئاسية 2024 ستواصل طريقها في حالة من الهدوء السياسي والشعبي والإعلامي، حتى أنها ظهرت في بداياتها دون أهمية الاستحقاق الانتخابي الكبير، في انتظار ما بقي من آجالها الزمنية نحو موعد 7 سبتمبر.
ربما يرى البعض أن هذا الهدوء غير المسبوق في خطابات المترشحين يشكل انعكاسًا لمستوى النضج السياسي الذي اكتسبته الساحة الوطنية، بفعل عقود من تجارب الصراع والسجال والاستقطاب الأيديولوجي، حيث يغلب حاليّا التوجه نحو التركيز على المنافسة بالأفكار البرامجية والمقترحات التي يمكنها إقناع المواطنين بتحقيق تطلعاتهم الاجتماعية والاقتصادية، عوض الاستغراق في لغة المزايدات والتجريح وتهييج الرأي العام، حتى وإن كان هذا الأمر مقبولاً في حدود معينة، وفق أعراف التنافس الانتخابي السياسي.
كما يمكن أن يفسره آخرون بأسباب مختلفة، تتعلق عمومًا بالمزاج النفسي العام، وغياب منافسة فعليّة بين مُترشحين متفاوتي الحظوظ بشكل كبير في السباق نحو المرادية.
لكن أهم من تلك التفسيرات، وهو ما ينبغي الانتباه والاستعداد له، هو ثقل المركز الدستوري والسياسي والدولي لمنصب رئيس الجمهوريّة، خاصة في ظل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها في الدستور الجزائري، وجملة التحديات الإقليمية والخارجية المحيطة ببلادنا، دفعًا للآثار السلبية المحتملة بخصوص الإقبال الشعبي على مراكز الاقتراع.
هذا يعني أن رئيس الجمهورية بحاجة إلى مصداقية شعبيّة واسعة، وليس فقط حيازة شرعية انتخابية عن طريق الصندوق، حتى يتمكن من أداء المسؤوليات الخطيرة المنوطة به وتنفيذ الإصلاحات الحساسة، خاصة في الملفات الاقتصادية والمالية ذات الآثار الاجتماعية العميقة.
ينبغي التذكير أن آخر برلمانيات (جوان 2021) لم تتعد فيها نسبة المشاركة 30 بالمائة، وهي الأضعف في تاريخ الجزائر، أما دستور 2020، وعلى أهمية ما ترتب عليه من إصلاحات مؤسساتية وسياسية، فقد تم إقراره بتصويت شعبي لم يتجاوز 23 بالمائة من مجموع الهيئة الناخبة.
صحيح أن تلك المؤشرات لا تلغي شرعية النتائج السياسيّة المترتبة عنها، لأن مقياس الديمقراطية هو الأصوات المعبر عنها، بينما لا يعتدّ قانونًا بكمّ العزوف الانتخابي، لكنها في النهاية تخدش في مشروعية القرارات والمبادرات والإصلاحات المنبثقة عن مسارها.
نحن اليوم مقبلون على حدث سياسي، هو الأعلى على سلّم الاستحقاقات الانتخابية في بلادنا، لأنه يحدد مصير القاضي الأول ومجسد إرادة الأمة وممثلها في الداخل والخارج، ناهيك عن كل السلطات الدستورية التنفيذية والتشريعية المعلومة.
أما الجانب الآخر في حساسية الموعد الانتخابي، فهو السياق الوطني الداخلي، بكل ما يحمله من مكاسب معتبرة وتطلعات مؤجلة، وأيضا جملة الرهانات الإقليمية الخطيرة، خاصة في بعدها الأمني والجيواستراتيجي، ما يستوجب منح رئيس الجمهورية تزكية كبيرة، تجعله في موقع قوة أمام كل الضغوطات الأجنبية، بفعل الحصانة الانتخابية والحاضنة الشعبية، متحرّرا من كل مناورات الابتزاز الدولي واللعب على أوتار الشرعيّة المخدوشة، خاصة في ظل الخيارات السيادية التي برزت مؤخرا في سلوك الدبلوماسية الوطنية.
مهما كانت هوية الرئيس الفائز يوم 7 سبتمبر، فينبغي أن يحظى بشرعية واسعة، لأجل المساعدة السياسية على صيانة المصالح العليا للدولة الجزائرية، وكضمانة للاستقرار الوطني وتعزيز التلاحم الشعبي المؤسساتي في وجه المخاطر الخارجيّة.
لذلك حذار من الاستكانة إلى الاطمئنان والجزم بفوز مرشح ما، بل يتعين على أنصار الفائز المتوقع التجند بكل قوة لإنجاحه بأكبر نسبة تصويت ممكنة، وعلى مؤيدي منافسيه أيضا مواصلة التعبئة الانتخابية بكل حماس وروح تنافسيّة كاملة، للظفر بثقة الشعب في تولّي الرئاسة أو على الأقلّ إحراز مكاسب سياسية لوعائهم الحزبي ولإعطاء شرعية أكبر لنتائج الاستحقاق الرئاسي، لأجل المصلحة العامة.
أما الفئة الصامتة التي لا تزال غير مُبالية بالشأن العام أو تعتبر عزوفها الانتخابي موقفًا سياسيّا مًعبرا عن رفض الواقع ومساره ومآله في كل الأحوال، فقد حان الوقت لتستيقظ من غفوتها الخطيرة، لأنّ الامتناع عن التصويت، على افتراض أنه موقف واع ومسؤول ومشروع، فإنه لا يمثل بديلاً للتغيير في الوضع القائم، بل يشكل تكريسًا للواقع.
لذا يتعين على هؤلاء التحلّي بروح المواطنة والمسؤولية الوطنية، للتعبير عن موقفهم الانتخابي تجاه خيار المنصب الأول في البلاد، سواء بتزكية الرئيس المترشح، بناء على تقييم نسبي لمنجزات العهدة الأولى، أو العدول عنه إلى أحد مُنافسيْه وفق القناعات الخاصة، لأنّ عدم المشاركة ليست عقابًا لأي مرشح، بل هي استقالة معنوية قاتلة للأمل في الإصلاح والتغيير، تفتح على المدى البعيد الأبواب للفوضى.
إذا كانت رئاسيات نهاية 2019، قد حازت 40 بالمائة من الأصوات المعبر عنها لارتباطها بسياقات الحراك الشعبي وانقسام الموقف العام من المسار الدستوري، فإنّ الجزائر تشهد رئاسيات جديدة في ضوء معطيات مختلفة تمامًا من حيث الظروف السياسية والاستقرار المؤسساتي، وهو ما يوجب أن ترتفع هذه المرة نسبة التصويت العام فوق 50 بالمائة على الأقل من الوعاء الانتخابي، ليكون الرئيس القادم في أريحية كاملة في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجيّة.