معركة “الثوابت” و”التوابيت”

مع كل عملية تبادل للأسرى، الأحياء منهم والأموات، تنكشف أمام الكيان الصورة الصادمة التي تخلق الصداع المزمن لرئيس وزراء الكيان، كونها تمسُّه مباشرة، على اعتبار أنه هو السبب الأول والأخير: صور صادمة، لم تصدم ولم تؤلم أحدا فيهم أحدا قطّ، لا في دويلة الكيان ولا في دول “الديمقراطية والإنسانية وحقوق الحيوان”، لا يمينا ولا يسارا ولا متدينا ولا علمانيا، فالكل سواسية في الرقص على دم العربي في دولة العنصرية البغيضة المعششة في الأنفس والتديّن الزائف.
صور ممنوعة حتى من النقل والمشاهدة، إلا في هذه: عندما صار لزاما على الكيان أن يرى أسراه وتوابيتهم تسلَّم من غزة الآسرة لا الأسيرة، رغم كل الدمار الذي حل بها منذ عقدين من الحصار والتجويع وعيش المحتشدات.
لم يتألم فيهم ولا منهم أحد، ولا أدمعت صور الدمار والعدوان، عيون الغرب المتعامي، وهم يرون بأم أعينهم، وعلى المباشر، طيلة 15 شهرا، تلك الفظائع وذلك الدمار والخراب الوحشي، الذي خلَّفته الإبادة الشاملة الغاشمة على البشر والشجر والحجر وما فوق الأرض وما تحتها.
مع كل عملية “تصوير” لاستعادة الكيان لأسراه، تشاهَد وتُنقل لعائلات الأسرى ولباقي المنتشين بالقتل الجماعي “للكائنات غير البشرية”، على الفضائيات الصهيونية على المباشر عبر قنوات عربية، تكشف لنا ولهم المقاومة في غزة بؤس الفكر الغربي وزيف العقل “المتنور” ووحشية الفكر العنصري البغيض ورجسه المقيت.
هذه المرة، كانت أول مرة يستعيد فيها الكيان جثث أربعة من أسراه، هو من قام بقتلهم من أجل تحريرهم: رئيس وزراء الكيان المجرم، لم يكتف بقتل الأطفال والشيوخ وتدمير البنى التحية، بل قتل حتى أسراه، بذريعة تحريرهم من الأسر، في واقع الأمر، كان يريد أن يتخلى عنهم حتى لا يرى هذه الصور التي يراها اليوم كل سبت ثم أحيانا كل خميس: هذه الصور، لاسيما صور الجثث، التي تقضّ مضجعه أمام “الرأي الأعمى”، لأن الجميع هناك باتوا يعلمون أن نتنياهو هو من قتلهم، بل هو من أعطى أوامر تصفيتهم من خلال تنفيذ “الجيش الأكثر إجرامية” في التاريخ، لقانون “هنيبال”: يقتل الآسر والمأسور، خوفا من صفقة تبادل أسرى كما حدثت معه في صفقة “شاليط” التي لم ينسَها ولن ينساها جمهورُ الكيان.
المقاومة عرفت كيف توصل الرسائل من خلال منصة خان يونس التي استضافت لأكثر من سنة، كثيرا من هؤلاء، بعض من أطلق سراحه فقط عبر صفقة تبادل، والبعض الآخر من خلال توابيت كما كانت المقاومة قد حذرت من ذلك سلفا. نتنياهو هو من قتلهم لا المقاومة. على العكس، هي من حمتهم من القتل وحرصت على حياتهم طيلة كل هذه المدة، لفدية أسرى فلسطين في سجون الاحتلال الذين هم بالآلاف.
فشل الكيان في الوصول إلى أسراه، وفضّلت آلة الإجرام التدميرَ الوحشي المنهجي وقصف المباني على رؤوس قاطنيها، وحتى الخيام وأماكن التجمعات “الآمنة”، وقتلت رفقة الآلاف من الأطفال والمسنين، بعضا من أسراها حتى تستعيدهم -كمفارقة- أمواتا بمفاوضات متأخرة!
نُفِّذت الخميس أول عملية تبادل للجثث، تتبعها عملية تبادل أخيرة في المرحلة الأولى اليوم السبت، في انتظار وفاء بعهد لم يكن فيه قطّ الكيان وفيا لأي عهد، وسط تراجع لأسقف الحلم الأمريكي والصهيوني عن “صفقة بيع وشراء أرض وشعب” غزة، وبداية عضّ الأصابع عند الكيان وتحديدا لدى رئيس وزرائه، الذي يجد نفسه يعيش حالة تخبُّط بين الرغبة في بقاء حكومته الفاشية عبر العودة للحرب، وضغط الواقع الجديد والذهاب نحو المرحلة الثانية.