معلومات حساسة تضع ماكرون تحت الابتزاز في القضية الصحراوية
ما كان مجرد أخبار قبل ثلاث سنوات تداولتها الصحف الدولية، وعلى رأسها الإعلام الفرنسي، أصبح مؤكدا اليوم بعد أن عدل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عن موقف باريس التقليدي إزاء الملف الصحراوي وتخليه نهائيا عن لعبة شد الحبل بين الجزائر والمغرب.
في هذا الحوار الذي أجرته “الشروق” اليومي مع الكاتب والصحفي، منصور قدور بن عطية، مؤلف كتاب “بيغاسوس مملكة التجسس”، نتعرف على خلفية واقعة التجسس على الرئيس الفرنسي؟ وكيف تمكنت المخابرات المغربية من الوصول إلى صيد ثمين؟ مكّن أخيرا من ابتزاز نزيل الإليزيه ومقايضة باريس بالموقف “غير القانوني” و”غير الشرعي” المتعلق بالصحراء الغربية
هل تجسس المغرب فعلا على الرئيس الفرنسي ماكرون؟
في جويلية 2021 نشر موقع “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” (منظمة دولية) وما لا يقل عن 7 منافذ صحفية أخرى (في فرنسا وبلجيكا وألمانيا) عن واقعة التجسس على هاتف الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من خلال عناوين بارزة، “رؤساء دول تم اختيارهم كأهداف محتملة أيضا” و”إيمانويل ماكرون في بيانات مشروع بيغاسوس” و”المغرب مهتم بماكرون وميشال”، لكن لم يتم طوال ثلاث سنوات وضع هذه الاحتمالية على المحك وفحص الهاتف الشخصي للرئيس لتأكيد عملية الاختراق بهذا البرنامج الالكتروني المطور من قبل شركة صهيونية في مغتصبة “هيرتسليا”.
وطيلة هذه الفترة بقيت العلاقة بين فرنسا والمغرب بين شد وجذب، فبعد الكشف مباشرة عن واقعة التجسس ليس على الرئيس الفرنسي فحسب، بل على قرابة 14 وزيرا في حكومته دخلت العلاقة الثنائية بين البلدين في حالة جمود لم تنجح حتى مأساة الحوز الأخيرة (زلزال سبتمبر 2023) في تحريكها لصالح إيمانويل ماكرون الذي كان يغازل الملك محمد السادس بدون أي جدوى.
لكن ما الذي أدى إلى تغير موقف ماكرون بخصوص الملف الصحراوي؟
على غرار الحالة الإسبانية قد يكون الرئيس الفرنسي وقع فعلا في مخالب المخابرات المغربية التي تحصلت على معلومات، صور، مشاهد، تسجيلات أو حتى ملفات بإمكانها التأثير على زعيم الماكرونية الذي بدأ نجمه فعلا في الأفول.
كما أن الصراع الداخلي في المغرب بين المخزن الموالي لفرنسا وهو يضم جزءا من المؤسسة الملكية والأمنية ورجال الأعمال، والمخزن الموالي للصهيونية العالمية وهو يجمع طيفا مماثلا من الفاعلين في القصر والوزارات والأمن والمخابرات قد عجل بتنفيذ هذه المقايضة وعقد هذه الصفقة التي لا تتعلق فقط بالوضع القانوني للإقليم المحتل المعروف على المستوى الدولي، بل أيضا بسلة المساعدات التي سيتلقاها المخزن في شكل استثمارات أو مشاريع يعلم الجميع في المملكة المستفيد الحقيقي منها وهو الملك.
هل استهدف المغرب الرئيس الفرنسي فقط، أم كامل الدولة الفرنسية؟
في الحقيقة، استهدف المغرب 12 مسؤولا سياسيا بارزا في العالم، على رأسهم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، لكنه لم يكتف بذلك، فبعض المعلومات المفيدة قد تتوفر من مصادر أخرى، وتنفيذا لهذه القاعدة البسيطة في العمل المخابراتي والتجسسي كانت كامل الدائرة الرئاسية في قصر الإليزيه ضمن دائرة الاهتمامات المخزنية، وقد تضمن الجيب التجسسي لماكرون عددا كبيرا من مقربيه.
وطال هذا الاختراق الحكومة الفرنسية أيضا ولاسيما الوزارات الاستراتيجية وذات الأهمية البالغة بالنسبة للمصالح المغربية على غرار الخارجية (العلاقات الفرنسية الجزائرية والفرنسية الإفريقية والفرنسية الأوروبية) والداخلية والاقتصاد والمالية والزراعة وحتى وزارة التربية والبيئة.
وامتد هذا الاستهداف للعميل المغربي للبرنامج الصهيوني ليشمل أيضا نوابا بالبرلمان الفرنسي وآخرين بالبرلمان الأوروبي ومساندين للقضية الصحراوية ومحيطهم العائلي والمهني.
ماذا كان الموقف الرسمي الفرنسي من هذه الوقائع المثيرة؟
في البداية، تلقت باريس هذه الوقائع بشكل صادم، حيث قامت على الفور باستدعاء مجلس الدفاع والأمن القومي الفرنسي لعقد اجتماع طارئ. وهذا المجلس هو هيئة عليا تقرر عادة توجهات البرامج العسكرية والردع والقيام بالعمليات الخارجية وخطط التعامل مع المخاطر الكبيرة والاستخبارات والأمن الاقتصادي والطاقوي وبرامج الأمن الداخلي التي تساهم في الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب وتحدد أولوياتها.
وفي نفس اليوم، أعلنت السلطات الفرنسية عن تعديل إجراءات التأمين الخاصة بالرئيس الفرنسي بما في ذلك تغيير جهاز ورقم الهاتف الخاص به.
ومع أن المخترق “مغربي” تجاهلت فرنسا هذا العدو الضئيل وطالب إيمانويل ماكرون في اتصال هاتفي رئيس الوزراء الصهيوني “نفتالي بينيت” بتوضيحات حول الاستخدام المحتمل لبرنامج بيغاسوس في تعقب شخصيات فرنسية.
لكن لماذا حاولت فرنسا تفادي الصدام مع المغرب بينما أمنها القومي على المحك؟
حاول الفرنسيون في المرحلة الأولى معرفة ما إذا كان الكيان الصهيوني قد فتح تحقيقا في الوقائع التي كشفها مشروع بيغاسوس (التحقيق الاستقصائي)، وما إذا كان ينوي تكثيف الرقابة على عمليات تصدير البرامج السيبرانية الهجومية.
كما كانت فرنسا مهتمة بداية بمعرفة ما إذا كان الصهاينة يعتزمون اتخاذ إجراءات ضد مجموعة “أن أس أو” في حالة ما إذا كانت مسؤولة عن هذا التجاوز الخطير.
وأمام الغضب الفرنسي المتصاعد من تمكن المغرب “الطفل بالنسبة للإليزيه” من استخدام هذا البرنامج قام الكيان الصهيوني بعد 10 أيام بإيفاد وزير دفاعه، بيني غانتس، إلى باريس لينقل رسالة واحدة وواضحة “نحن نتعامل بحدية مع اتهامات التجسس ببرنامج بيغاسوس”.
حيث أبلغت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، أنذاك الوزير الصهيوني بالتوضيحات التي تنتظرها فرنسا والتي تتوقف عليها الثقة والاحترام بين البلدين، كما انتهزت هذا الاجتماع للإطلاع على مدى معرفة الحكومة الصهيونية بأنشطة زبائن (عملاء) مجموعة “أن أس أو” والتدابير التي اتخذتها وستتخذها في المستقبل لتجنب استغلال هذه الأدوات.
وبالرغم من تشكيل لجنة برلمانية صهيونية للتحقيق في سوء استخدام بيغاسوس وزيارة مكاتب الشركة المطورة للبرنامج بهرتسليا والمحادثات الثنائية بين “غانتس” و”برنار إيمي” رئيس المخابرات الخارجية الفرنسية لم تهدأ مواقف الإليزيه الغاضبة.
هل كان الموقف الفرنسي مبالغا فيه، أم أنه كان يخفي واقعة التجسس؟
أنا أعتقد أن الموقف الفرنسي لم يكن غاضبا على واقعة التجسس الإلكتروني فحسب، بل كان غاضبا من تمكين الكيان الصهيوني المخابرات المغربية من هذه التقنيات الجديدة ووصول المخترق للمعلومات التي سيستعملها في المستقبل ضد الرئيس والحكومة الفرنسية بالدرجة الأولى وهذا ما وقع فعلا اليوم.
ونتيجة لذلك دخلت العلاقة بين فرنسا والكيان الصهيوني في حالة فتور إلى غاية عقد لقاء سري بين مسؤولين صهاينة وفرنسيين بباريس لمحاولة تهدئة التوترات حسب ما أعلنت عنه الرئاسة الفرنسية في أكتوبر 2021.
وقال الإليزيه في ذلك الوقت إن جلسة مفيدة للحوار الاستراتيجي بين إيمانويل بون، المستشار الدبلوماسي للرئاسة الفرنسية، وإيال حولاتا، مستشار الأمن القومي الصهيوني قد عقدت مؤخرا للمطالبة بضمانات في قضية شركة “أن أس أو” ولاسيما أن مصادر مقربة من هذا الملف قد أكدت شهر سبتمبر 2021 أن الهواتف الجوالة لخمسة وزراء فرنسيين على الأقل ودبلوماسي مرتبط برئاسة الجمهورية تعرضت للتجسس.
واقترح الطرف الصهيوني أن تصنف شركة “أن أس أو” في مفاوضاتها في المستقبل مع الزبائن المحتملين الهواتف الفرنسية بغير القابلة للتجسس، على غرار الهواتف الأمريكية والبريطانية.
وحتى خلال زيارة وزير الخارجية الصهيوني، يائير لابيد، إلى باريس في إطار جولة أوروبية حول الملف النووي الإيراني كان ملف بيغاسوس جزءا من المحادثات مع الرئيس الفرنسي ماكرون، بالرغم من أن التقارير الإعلامية كانت تشير إلى أن “فرنسا والكيان الصهيوني يريدان إنهاء الخلاف بينهما” بعد قرابة 5 أشهر من برودة المصافحات وإلغاء برنامج الزيارات
ما الذي أغضب فرنسا من حصول المغرب على هذه المعلومات؟
يجب أن نعرف أولا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعتبر من أهم الشخصيات التي أظهرها التحقيق الدولي الذي نشر بخصوص التجسس الالكتروني من خلال برنامج بيغاسوس والذي يكون قد استهدف أزيد من 50 ألف رقم هاتفي في عدة بلدان.
وتم اختيار رقم إيمانويل ماكرون كهدف محتمل للتجسس في 2019، لكن التحقيقات المستقلة لم تتمكن من إجراء أي تحليل جنائي للتحقق مما إذا كان الهجوم ناجحا وما هي المعلومات التي تحصل عليها الجاني؟
في نفس الوقت تقريبا أي النصف الأول من 2019 تم اختيار المستشار الرئيسي لماكرون بشأن إفريقيا، فرانك باريس، والمسؤول عن الأمن، ألكسندر بينالا، الذي استهدف هاتفه على مدار عام من منتصف 2018 إلى منتصف 2019.
وقد يكون هدف المغرب من هذا الاستهداف هو الجزائر التي كانت في هذه الفترة تواجه أزمة سياسية بسبب الحراك الشعبي واستقال خلالها الرئيس بوتفليقة بعد أن أقال الوزير الأول السابق أحمد أويحيى وتم تشكيل حكومة جديدة.
وتظهر بيانات “مشروع بيغاسوس” أن دبلوماسيين ومسؤولين جزائريين والسفير الفرنسي في الجزائر، كزافييه درينكور، كانوا ضمن القائمة المحتملة خلال نفس الفترة، وهذا قد يفسر هوس العجوز الفرنسي المدعو “درينكور” بالجزائر وولعه بالمخزن، إنه تحت الابتزاز أيضا ويعمل بالإيعاز.
زيادة على ذلك، ما الذي يكون قد أثار فضول المخزن خلال هذه الفترة؟
في نفس الحيز الزمني الذي تم فيه الاختراق، شارك ماكرون في قمتين مهمتين بالنسبة للمغرب تخصان مجموعة دول الساحل والاتحاد الإفريقي، ناقش خلالها هو ومبعوثوه “النزاع الصحراوي” و”الأزمة في الجزائر”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصيد الثمين الذي تحاول الوكالات الحكومية الوصول إليه هي المعلومات المفيدة التي يمكن جمعها للتأثير والتشويش ودعم القرارات أو إدارة الأزمات، ومن ذلك ما قام به المغرب في هذه الحالة مع فرنسا.
وتعتبر المعلومات بالنسبة للمخزن المغربي عصب كل العمليات التي يقوم بها في الخارج سواء من خلال دبلوماسيته التي تعتمد على محاولة التأثير والتشويش أو تشويه الوقائع وعرض الخيارات التي تتناسب مع أطروحاته حول المنطقة المغاربية، أو قضايا الساحل والصحراء، أو مناطق أخرى.
ويؤكد هذا الطرح “الأهداف التي اختارها العملاء المغاربة” و”الفترة التي تم تحديدها” كما ذكرنا والتي ترتبط أساسا بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، مواقف فرنسا من الأزمة السياسية في الجزائر، العلاقات الفرنسية مع دول الساحل، العلاقات الفرنسية الإفريقية، العلاقات الأوروبية، القضية الصحراوية، وإذا كانت هناك معلومات أخرى حول التسلح الجزائري أو بيانات استراتيجية عسكرية أو اقتصادية في شبكة الصيد فلا مانع من ذلك.
وفضلا عن ذلك يبحث المخزن دائما عن النفوذ وربما هذا ما دفعه للتجسس الذي طال الحكومة الفرنسية ولاسيما الوزير الأول ووزراء الداخلية والخارجية والزراعة والاقتصاد والمالية والتربية وهم جميعا أهداف صالحة للمقايضة ولتأييد الأطروحة المغربية أو التشويش على خصومها.
لكن هل تكفي مثل هذه المعلومات للتأثير على الرئيس الفرنسي؟
الإجابة هي لا، لا تكفي من أجل التأثير، ما حصل عليه المغرب من خلال التجسس يبدو لي خطير جدا، لاسيما فيما يتعلق بمستقبل ماكرون السياسي في فرنسا، نقاط قوته وضعفه، مراكز نفوذه وعلاقاته الحيوية لاسيما في الداخل ومع مختلف المجموعات الضاغطة والحركات واللوبيات في أوروبا وخارجها، أيضا ما يتعلق بحياته الشخصية وروابطه الخاصة، بما في ذلك الجزء الحميمي وربما هذا الذي سيتحول في يوم من الأيام إلى فضيحة مدوية تتداولها الألسن ويشاهدها العيان.
وعلى غرار الحالات المعروفة بالنسبة للمغرب يهتم العميل المخزني بالفساد، بالإثارة، بالحياة الجنسية، بالمسكوت عنه، بالفضائح، بما يحاول دائما المسؤول السياسي إخفاءه أو طمسه من أجل تفادي الاغتيال المعنوي، أو الإحالة قسرا على التقاعد السياسي بشكل مبكر ما لم يكن هناك موقف يمكن أن يؤجل ذلك، وهو في حالة ماكرون تأييد الأطروحة المغربية، مزيد من الاستثمارات الفرنسية، ودعم للحرملك الملكي (شقيقات الملك) الذي يريد الإطاحة بالملك المقبل قبل أن يغادر العاهل المريض.