مفتاح العلم الصّبرُ
استأذن موسى -عليه السّلام- الخضر -رضي الله عنه- في اقتفاء أثره ليتعلّم منه ما يستكمل به فقه الدّعوة في جانبها الطّارئ على المقاصد الكبرى المعلومة من الدّين بالضّرورة، وسمّاها الرّشاد. والخضر -رضي الله عنه- يعْلم أنّ ما سأله عنه وحدّد موضوعه رشادًا وحكمة ونظرًا في تقدير المصلحة يحتاج إلى صبر واحتساب وطاعة وحسْن صحبة.. فقد كان يعلم أنّ بعض المشاهد ستصدم “ضميره الإيماني”، فظاهرُها يشي بالفساد أو يوحي بشيء من تجاوز حدود الأحكام الشّرعيّة الظّاهرة. وموسى -عليه السّلام- التزم بشرط الصّبر وبطاعة من ارتضاه مرشدا، واستعان بالله على أداء ما ألزم به نفسه، فاهتبل الخضر هذا الكرم الكبير والأدب الرّفيع من موسى -عليه السّلام- ليضيف شرطا ثالثا ملزما لهما معًا هو الاكتفاء بالملاحظة والسّماع وعدم طرْح السّؤال حتّى تبلغ الرّحلة منتهاها.
الملاحظة هي سرّ العلم كلّه والسّؤال مفتاحه، فباستخدام حاسّتيْ السّمع والبصر نلاحظ حقائق الأشياء ونستوعب بعض ما يجري حولنا. فإذا تأمّلناها وجمعنا شتاتها وربطنا أطرافها بعضها ببعض ولم نستعجل بالسّؤال أو بإصدار الحكم كنّا على الجادّة ريثما يستكمل العارف بها صورة المشهد المنظور ويأذن بالسّؤال عمّا احتجب عنه: ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)) (الكهف: 70).. لا تعجل بالسّؤال حتّى يحدث المرشد ذكر ما يرى بيانه واجبا لوقت الحاجة. فمن الرّعونة العجلةُ بالسّؤال قبل انقضاء الدّرس. خذْ ما تسمعه أذناك وما تراه عيناك أوّلا، واستوعبه واعمل بأحسنه ثانيا. ثم اسأل الله المزيد.
لم ينتظر الخضر جوابا من موسى؛ فالمسائل الفنيّة لا تناقش عادة إذا أبرم الاتّفاق على المقاصد واستبانت الغايات، فيُترك شأنها للخبراء. فالعلوم يأخذ بعضها برقاب بعض، فإذا استعجلها طالبُها بالسّؤال أفسدها وأضاع على نفسه فرصة الفهم السّليم، وشتّت ذهنه في إدراك “وحدة موضوعها” بتشتيت شملها بالسّؤال قبل تجميع أجزائها. فلو صبر موسى -عليه السّلام- لتعلّمنا من الخضر الكثير، ولكنّه استعجل إنكار ما رأته عيناه فتمّ الفراق بعد ثلاث محطّات. وفي القرآن الكريم إشارات إلى الأناة والصّبر والتّريّث وعدم استعجال المعرفة حتى ينهي الوحي صورة الحكم: ((ولَا تَعْجَلْ بِالقرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) (طه: 114)، فلا تعجل بالسّؤال حتّى يتمّ الحديث وتكتمل صورة العرْض.
بهذا الاتّفاق الواضح انتهى المقطع الأوّل من هذه القصّة بلقاء الرّجليْن وعزْمهما على إمضاء ما اتّفقا عليه، ليبدأ المقطع الثّاني منها بانطلاقة تلقاءَ ثلاث محطّات: واحدة في البحر، وثانيّة في ساحة مرَح الأطفال، وثالثة في قرْية موصوفة بالبخل. أمّا غلامُ موسى فقد اختفى أو انتهت مهمّته عند “مجْمع البحريْن” وصار الحديث بضمير الاثنيْن: ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)) (الكهف:71). اختفى فتى موسى لتنتظم “الرّحلة العلميّة” الشّيخَ ومريده، بتعبير الصّوفيّة؛ فانطلقا، وركبا، ثم انطلقا، فلقيا غلامًا، ثم انطلقا، وأتيا أهل قرية.. كلّها بألف الاثنين، فلم يظهر لفتاه أثر من بداية الرّحلة إلى نهايتها. ما يعني أنّ الرّحلة كانت ثنائيّة بين موسى-عليه السّلام- والخضر -رضي الله عنه-. روى التّرمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم-: “إنما سُميّ الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتزّ تحته خضراء”، وحُقَّ لها أنْ تهتزّ تشريفًا بما شرّفه الله به من علم من لدُنه. فمن كان في معيّة الله يدْهشه عطاؤه. فالخوارق لا تعمل بإرادتهم ولا تأتمر بأوامرهم ولا تتعدّاهم إلى غيرهم، فذاك عطاء ألوهيّة مخصوص لهم لبيان جريان أقدار الله في ملكه.