-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مقاربة الذاكرة الوطنية في رؤية الرئيس تبون

بقلم: رضوان شافو
  • 233
  • 0
مقاربة الذاكرة الوطنية في رؤية الرئيس تبون

منذ تولي السيد عبد المجيد تبون رئاسة الجزائر في عهدته الأولى سنة 2019، أعطى أهمية كبيرة لملف الذاكرة الوطنية، وكتابة التاريخ الوطني، وجعلها ضمن أولى أولياته من خلال التزاماته 54 ضمن برنامجه الانتخابي، وعلى الخصوص الالتزام رقم 12 الذي يؤكد فيه على تعزيز مكونات الهوية الوطنية (الإسلام والعروبة والأمازيغية) وضمان الحفاظ على الذاكرة الوطنية وسياسة التكفل بالمجاهدين وذوي الحقوق، والأبعد من ذلك أن اختياره رقم 54 لالتزاماته التعهدية له رمزيته التاريخية، لكون هذا الرقم هو إشارة ضمنية إلى السنة التي اندلعت فيها الثورة التحريرية المباركة من أجل استقلال الجزائر واسترجاع سيادتها الوطنية.

ووفاءً لالتزاماته التعهدية وبعد انتخابه رئيسا للجمهورية الجزائرية، كان أول ما بدأ به في الإصلاح السياسي التعديل الدستوري الذي أقره في الفاتح نوفمبر من سنة 2020 تيَّمُناً بشهرالثورة التحريرية، مؤكدا من خلاله على حرصه الشديد بالحفاظ على الذاكرة التاريخية ومكتسبات الثورة التحريرية انطلاقاً من صيغة قسم أداء اليمين الدستورية الذي يقول فيه: “وفاءً للتضحيات الكبرى ولأرواح شهدائنا الأبرار وقيم ثورة نوفمبر الخالدة، أقسم بالله العظيم أن أحترم الدين الإسلامي وأمجِّده… وأحافظ على سلامة ووحدة التراب الوطني ووحدة الشعب والأمة..”.

وتجسيدا لهذا القسم الدستوري، فقد تجلى وفاء الرئيس عبد المجيد تبون في دسترته لبيان أول نوفمبر وبشكل صريح في دباجة الدستور الجديد، واحتلال تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية حيزا كبيرا في الفقرات الأولى من ديباجته، ناهيك عما جاء في الفصل الأول، من الباب الأول المتعلق بالمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري، من خلال المواد 1،2،3،4،6 التي تعزز الهوية الوطنية، ومكتسبات الثورة التحريرية ممثلة في العلم الوطني والنشيد الوطني، وكذلك المادة الثمانون (80) في الفصل الثاني، من الباب الثاني المتعلق بالحقوق الأساسية والحريات العامة والواجبات، حيث نصت هذه المادة على ضمان الدولة احترام رموز الثورة وأرواح الشهداء وكرامة ذويهم والمجاهدين، وتعمل الدولة على ترقية كتابة تاريخ الأمة وتعليمه للأجيال.

وعلى هذا الأساس، كان رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، وفي كل المناسبات التاريخية الوطنية، يجدد التزامه الكامل بجعل التاريخ والذاكرة من بين أهم أولوياته القصوى، مؤكدا على أن ملف الذاكرة الوطنية في فترة الاستعمار، سيبقى في صميم انشغالات السلطات الجزائرية، حتى تتحقق معالجته بموضوعية جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية، ولهذا الغرض، وبناءً على “بيان الجزائر”، الموقع بتاريخ 27 أوت 2022 بين رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تم إنشاء لجنة التاريخ والذاكرة مشتركة بين مؤرخين جزائريين وفرنسيين سنة 2022 (5+5) كلفت بمهمة التعاطي مع ملف التاريخ والذاكرة بما يُتيحه لها التخصص في البحث التاريخي والتمرس في التمحيص والدقة في التحري لإجلاء الحقيقة التاريخية، وقد اعتبرت لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية من أولى مكتسبات العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون، التي بفضلها استطاعت الجزائر خلال الاحتفالات بالذكرى 58 لعيدي الاستقلال والشباب أن تسترجع 24 من رفات جماجم لشهداء المقاومة الشعبية بعد 170 سنة من الاستبعاد القسري بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس ( فرنسا)، مؤكدا في هذا السياق على مواصلة عملية استرجاع بقايا جماجم الشهداء، علما أنه تبقى بفرنسا حوالي 100 جمجمة لمقاومين جزائريين، وبفضل هذه اللجنة أيضا قدمت الجزائر لائحة مفتوحة لممتلكات جزائرية تاريخية تتواجد في مؤسسات فرنسية من أجل استرجاعها، وقد نتج عن هذا الطلب استرجاع مليوني وثيقة مُرقمنة خاصة بالفترة الاستعمارية، فضلاً عن عدّة ممتلكات منهوبة، إضافة إلى 29 لفة و13 سجّلا من الأرشيف المتبقي الخاص بالفترة العثمانية، بحسب بيان أفاد به منسق اللجنة الجزائرية الدكتور محمد لحسن زغيدي.

وبخصوص المناسبات الوطنية ووفاء لتضحيات الشهداء، فقد خصّ الرئيس عبد المجيد تبون أياما تاريخية وطنية جديدة في سجل الأعياد الوطنية الرسمية المحتفل بها سنويا، على غرار اليوم الوطني للذاكرة المصادف لذكرى مجازر الثامن ماي، وهي محطة دموية مأسوية في تاريخ نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي راح ضحيتها أزيد من 45 ألف شهيد، وتخليد هذا اليوم جاء “اعتزازًا بفصول المسيرة الوطنية الحافلة بالنضالات جيلًا بعد جيل”، على حسب تعبير السيد عبد المجيد تبون، هذا بالإضافة إلى ترسيم تاريخ الرابع من أوت كيوم وطني للجيش الوطني الشعبي، وهو تاريخ تحوير جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، وتخليد هذا اليوم جاء اعترافا بالدور الذي أداه جيش التحرير الوطني خلال الثورة التحريرية المباركة، واعترافا في ذات الوقت بالدور الذي يؤديه الجيش الوطني الشعبي في الحفاظ على رسالة الشهداء وأماناتهم وصون وديعتهم، وصُنعه لصُور إنسانية في التعاون والتضامن مع الشعب الجزائري، من خلال الوقوف معه في مختلف الأزمات والكوارث الطبيعة التي عرفتها الجزائر المستقلة.

وتجسيدا لالتزامات الرئيس عبد المجيد تبون المتعلقة بالذاكرة، وعلاوةً عما تطرقت له سلفا من الإنجازات، وتطبيقا للمادة الثمانين من الدستور الجديد، وتعزيزاً للقيَم والمبادئ النوفمبرية في المنظومة التربوية، ودحضاً للدعايات المغرضة تجاه تاريخ الجزائر، عمل على إنشاء قناة الذاكرة التلفزيونية، المتخصصة في تاريخ الجزائر، وذلك عشية الاحتفال بالذكرى الـ66 لاندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، وفي ذات السياق ومن منطلق أن مسألة الذاكرة التي هي من المكونات الأساسية للهوية الجزائرية، التي تعد جزءا لا يتجزأ من السيادة الوطنية وأحد الأسس التي تُبنى عليها الجزائر الجديدة، والجزائر المنتصرة، ووفاءً للمجاهدين وذوي الحقوق عمل الرئيس تبون على رقمنة وعصرنة كافة الأنظمة المعلوماتية لقطاع وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، وربط كافة المؤسسات التابعة لها بالألياف البصرية لتبليغ القيم السامية للمجاهدين والشهداء ورسالتهم النبيلة، وهذا تماشيا مع سياسة الدولة في مجال العصرنة لمسايرة التكنولوجيات الحديثة، وفي السياق ذاته، وبتاريخ 4 جويلية 2022 عمل على إطلاق أول منصة رقمية تاريخية مخلدة لستينية الاستقلال تحت اسم “جزائر المجد”، وتطبيقا لهاتف النقال “تاريخ الجزائر 1830-1962” الذي يسمح بالاطلاع على محطات التاريخ الجزائري ومعطياته بمنهجية وأسلوب راقٍ ومبسط لتبليغ رسالة الجهاد والكفاح إلى كل الشباب الجزائري، زيادة على إنشاء لعبة إلكترونية ثلاثية الأبعاد 3D بمواصفات عالمية، تجسد ملحمة الثورة الجزائرية وتجمع بين متعة اللعب والتمجيد للتاريخ الثوري للمجاهدين والشهداء، بحيث ستصبح هذه اللعبة الإلكترونية في متناول الأطفال ابتداءً من الفاتح نوفمبر المقبل، بحسب ما أفادت به وسائل الإعلام الجزائرية.

وفي ما يتعلق بتشجيع وترقية البحث في التاريخ الوطني، فقد تم طبع الآلاف من الكتب التاريخية الجديدة مصدرها الرئيسي الشهادات الحية للمجاهدين ومذكراتهم الشخصية، وإنجاز العديد من الأفلام الوثائقية والسينمائية التاريخية تتناول عدة جوانب من الثورة التحريرية، مثل فيلم الشهيد مصطفى بن بولعيد، والشهيد العربي بن مهيدي، والشهيد زيغود يوسف، والشيخ عبد الحميد بن باديس، وفيلم عذراء الجبل الذي يخلد ملحمة البطلة لآلة فاطمة نسومر، وكان آخر إنجازات الرئيس تبون في مجال السينما التاريخية إطلاق مناقصة دولية في الإنتاج والإخراج لإنجاز عمل سينمائي كبير حول الأمير عبد القادر، وذلك لما للأمير عبد القادر من رمزية تاريخية وإنسانية سامية، بالنظر لمساره الذي أفناه في بناء الجزائر المعاصرة وإشعاعه الدولي وما بذله في سبيل حماية الأقليات عبر العالم على حد تعبير الرئيس عبد المجيد تبون.

وفي إطار الدبلوماسية التاريخية، عمل الرئيس تبون في شهر جويلية 2023 على تأسيس الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية، وإنشاء معلم تذكاري يخلد 1943 صديق للثورة الجزائرية بساحة رياض الفتح، وهذا بمناسبة الاحتفالات المخلدة للذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية، وتعزيز هذه الدبلوماسية يأتي في إطار الاعتراف برد الجميل لأصدقاء الثورة الجزائرية، وبهدف الحفاظ على الروابط المتينة بين الجزائر وأصدقاء ثورتها الأجانب وتكريس القيم الإنسانية والتضامن لدى جيل ما بعد الاستقلال.

والمتتبع لخطابات الرئيس عبد المجيد تبون في مختلف الأعياد الوطنية، سيلاحظ ذلك الاهتمام المتزايد بالتاريخ وبالذاكرة، وحدة نبرة كلامه تجاه فرنسا كلما تعلق الأمر بملف الذاكرة، ومما قاله في إحدى المناسبات التاريخية: “إن الاهتمام بالذاكرة الوطنية من جميع جوانبها ليس مدفوعا بأي نزعة ظرفية، وإنما هو واجب وطني مقدس لا يقبل أي مساومة، وسوف يظل في مقدمة انشغالات الدولة لتحصين الشخصية الوطنية، وفي صميم الوفاء لشهداء ثورة نوفمبر المجيدة، والمجاهدين الأخيار”. وفي موضع آخر، قال: “إننا لن نتخلى عن ذاكرتنا أبدا ولا نتاجر بها، الأمور تحل بذكاء وبهدوء وليس بالشعارات”، وبناء على هذا الحرص الشديد لملف الذاكرة التاريخية الجزائرية في إطار العلاقات الجزائرية الفرنسية، دفع بتصحيح الكثير من المواقف السياسية، ومنها على الخصوص المقطع المحذوف من النشيد الوطني من الكتب المدرسية منذ سنة 1986 لاعتبارات سياسية، بحكم أن هذا المقطع يحمل نبرة تهديد ووعيد لفرنسا، الذي يقول: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يُطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب”، وعلى هذا الأساس، أعاد الرئيس تبون اعتماد المقطع من النشيد الوطني الذي كان محذوفا بمقتضى مرسوم رئاسي نشر في الجريدة الرسمية في 12 ماي 2023، وفي السياق ذاته، طالب الرئيس تبون عن طريق وزارة المجاهدين وذوي الحقوق المنظومةَ التربوية بإعادة مراجعة كتب التاريخ المدرسية، وتصحيح الكثير من الأخطاء التي تمس بمقدسات الثورة التحريرية وكذا بالتضحيات الكبرى التي قدمتها الجزائر في سبيل الاستقلال، وهو ما يعتبر مساسا بمقومات المجتمع الجزائري وتاريخه المجيد.

في الأخير، وما تجدر الإشارة إليه، هو أن الندية في العلاقات الجزائرية الفرنسية بخصوص ملف الذاكرة، دفعت الرئاسة والحكومة الفرنسية إلى تقديم عدة تنازلات لفائدة الجزائريين، تمثلت في الاعتراف بما قامت به فرنسا الاستعمارية من جرائم في حق الشعب الجزائري، كان أولها اعتراف الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند سنة 2012 بالقمع الدموي في حق المتظاهرين الجزائريين، في 17 أكتوبر 1961 بباريس، استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني، بهدف كسر حظر التجوال. وفي هذا السياق، من عام 2022، تم الكشف عن وثائق حكومية من الأرشيف الفرنسي، رفعت عنها السرية، تثبت تورط المسؤولين المباشرين لهذه المجازر وفي مقدمتهم موريس بابون، بمن فيه الرئيس شارل ديغول الذي كان على علم بها، وقد صادق البرلمان الفرنسي خلال شهر مارس من سنة 2024 على مقترح لائحة تدين القمع الدموي والإجرامي، الذي مورس على الجزائريين خلال مظاهرات 17 أكتوبر 1961. وفي السياق ذاته، تواصلت سياسة تقديم الاعترافات، حيث اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سنة 2018، بمسؤولية الدولة الفرنسية في مقتل الشيوعي الفرنسي موريس أودان، في 1957، الذي ناضل لأجل استقلال الجزائر، وخلال شهر مارس 2021، اعترف الرئيس الفرنسي ذاته باسم فرنسا بدور الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر بتعذيب وقتل المحامي علي بومنجل.

فكل هذه الاعترافات الفرنسية للشعب الجزائري، والإنجازات، ما كانت أن تأتي، لولا السياسة الذكية والحكيمة، التي يمارسها الرئيس، عبد المجيد تبون، في الحفاظ على الذاكرة التاريخية الجزائرية، من منطلق أنها واجب مقدس، وعرفان ووفاء لتضحيات الشهداء والمجاهدين، وحفظ لوديعة الشهيد مراد ديدوش، حينما قال: “إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خُلقنا من أجل أن نموت ولكن ستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!