ملف الذاكرة كما يراه بنجامان ستورا

كتبت منذ سنوات كتابا عن “يهود الجزائر في الكتابات اليهودية المعاصرة:كتاب المنافي الثلاثة لبنجامان ستورا أنموذجا”، انتقدت فيه كثيرا من مواقف المؤرخ بنجامان ستورا، وخاصة موقفه من انتفاضة قسنطينة في الخامس من أوت عام 1934م، وتحيزه الواضح إلى الجالية اليهودية وإدانته لما سماه “العنف الإسلامي” في إشارة إلى ردة فعل المسلمين ضد ما أقدم عليه “إلياهو خليفي“ الذي اقتحم الجامع الأخضر وأطلق النار على المصلين وفعل فعلته التي فعل التي أغضبت المسلمين وتركت استياء كبيرا حتى في أوساط بعض اليهود.
لا يهمني هنا الدخول في تفاصيل الحادثة ولكن يهمني الموقف المتحيز الذي وقفته الإدارة الاستعمارية تجاه المتسبب في الحادثة وتجاه اليهود، وموقفها المتشدد ضد المسلمين المنتفضين، نصرة لدينهم وغيرة على مسجدهم، إذ حكم القضاء الاستعماري في ذلك الوقت على المعتدي “إلياهو خليفي“ بالحبس يومين اثنين وحكمت على المعتدى عليهم من المسلمين بأحكام ثقيلة وصلت إلى السجن مدى الحياة، وهي أحكام جائرة ومتحيزة، تدل على أن الاستعمار كان يستعمل مؤيديه من الطائفة اليهودية أداة لتمرير أفكاره وتنفيذ مشاريعه مقابل عروض لا يتسع المقام لذكرها في هذا المقال.
ما أريد قوله هنا باختصار هو أن العاطفة الدينية قد غلبت على بنجامان ستورا فانتصر لقومه على طريقته وتعمَّد إخفاء الحقيقة التي يمليها عليه ضميره بوصفه مؤرخا لامعا له حضوره وبصمته ويُستأنس برأيه في كثير من القضايا التاريخية الشائكة، وما أريد قوله أيضا هو أن اليهود لم يكونوا في يوم من الأيام هدفا للإدارة الاستعمارية بل أداة تستخدمهم لتمرير أفكارها وتبرير أفعالها ولا يستثنى من ذلك إلا شرذمة قليلون من اليهود الذين لا يعادون المسلمين أو لا يجاهرون على الأقل بعدائهم لهم كما يفعل المتزمّتون والمتطرفون منهم.
ليس هناك من هو أعلم بالحقيقة التاريخية وبالمعتدي والمعتدى عليه من بنجامان ستورا فيما يتعلق بأحداث قسنطينة عام 1934 م، ولكنه آثر التحيز إلى قومه وجرّ النار إلى قرصهم على طريقة الشاعر “دريد بن الصمة“: “وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد“.
ورددت في الكتاب المذكور آنفا على موقف اليهود من جبهة التحرير الوطني وتواطئهم مع الاستعمار سرا وجهرا ضد نضالها المشروع لحماية الدين وتحرير الوطن والحفاظ على المقدسات والمكتسبات. لقد كان ستورا عالما بحقائق الأمور التي لا يعلمها كثير من الناس ولكنه علّق على ذلك بتعليقات هي أقرب إلى التبرير العاطفي منها إلى التحليل التاريخي، وتناسى وظيفته البحثية وانخرط في عملية تزكية مكشوفة لا تمتّ إلى عمل المؤرخ بصلة.
لم يبدِ ستورا فيما سبق في كثير من كتبه وكتاباته موقفا صريحا وصحيحا من الاستعمار الفرنسي والجرائم التي ارتكبها في حق الشعب الجزائري، ولكنه عدل عن ذلك واختار منذ فترة إماطة اللثام عن حقيقة الاستعمار في تغير لافت للنظر في مواقفه وأفكاره والتي تجسدت في التقرير الذي قدمه للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الذي أبان فيه عن موقفه من ملف الذاكرة وعن رؤيته لخارطة الطريق من أجل طي صفحة الماضي وتسوية الخلافات والتوجه نحو المستقبل.
ما يستوقفني في هذا التقرير هو موقف ستورا غير الصريح من الاستعمار، وعملا بواجب الأمانة العلمية وحتى أضع القارئ في الصورة، أقتبس من تقرير ستورا المعنون: “تقرير بشأن قضايا الذاكرة المتعلقة بالاستعمار وحرب الجزائر“، ما يؤكد ما ذهبت إليه من أن ستورا قد تحدّث عن الاستعمار على استحياء ربما لإعطاء فرصة للتقارب الثقافي والحضاري بين الأجيال من الضفتين التي لم تشهد الحقبة الاستعمارية ولم تكن طرفا فيها، وهو الأسلوب الذي وإن كان مستساغا بالنسبة لستورا فهو غير مستساغ بالنسبة لنا لأن الاستعمار يمثل إرثا قبيحا وفترة ظالمة ومظلمة لا تختلف حولها الأجيال، فعدو ابن مهيدي وعميروش وغيرهما من رجال وأبطال الجزائر عدوّنا وكلنا ثوريون سواء من أشعل فتيل الثورة ومن ورثها من أجيالنا ومن يرثها من الأجيال التي تأتي بعدنا.
إن أول ما يستوقفنا في هذا التقرير هو استخدام ستورا بعض المصلحات والذي كان استخداما قاصدا ولم يكن استخداما عفويا، فهو يستخدم مصطلح “حرب الجزائر” في حين أنها في حقيقة الأمر حربٌ تحريرية وليست حربا على الطريقة التي استخدمها ستورا، التي لا تعين على تمييز الجلاد من الضحية بل توحي بأنها شكل من أشكال صراع الوجود والنفوذ الذي يكون بين فئتين متقاتلتين، تسعى كل منهما لإضعاف خصمها وفرض هيمنتها.
إن انتقاد الرئيس ماكرون للاستعمار كما جاء في خطاب التكليف الذي أرسله إلى ستورا بوصف هذا الأخير ممثلا للطرف الفرنسي في نقاشات ملف الذاكرة، لا يعني أن الرئيس ماكرون يدين الاستعمار بوصفه سالبا للعرض ومغتصبا للأرض بل لأنه يمثل كما جاء في خطاب التكليف : “عائقا أمام بناء مصير مشترك بين بلدينا في البحر المتوسط. وليس للنساء والرجال الذين يملكون بين أيديهم مستقبل الجزائر وفرنسا أدنى مسؤولية في صراعات الأمس ولا يجوز أن يتحملوا عبئها”.
استتوقفتني في تقرير ستورا هذه العبارة: “ليس عرض الماضي بالأمر الهيّن حين يتعلق الأمر بحرب الجزائر التي تشمل عدة فئات من الأشخاص المصابين بالصدمات (الجنود والضباط والمهاجرون والحركيون والمستوطنون الأوروبيون والأقدام السوداء والوطنيون الجزائريون)”.إن الاستعمار ليس من الماضي الذي يجب نسيانه وتجاوزه كما يعبّر عنه ستورا، كما أن وضع الجنود والضباط والمهاجرين والأقدام السوداء والمستوطنين في كفة واحدة أمرٌ مرفوض لدينا حتى ولو كانت الغاية منه كما قال هي نسيان الماضي وتقريب وجهات النظر وبناء جسور العلاقات بين فرنسا والجزائر حاضرا ومستقبلا.
إن ما حدث في الجزائر إبان الفترة الاستعمارية ليس صراعا بالمعنى الذي تحدث عنه ماكرون بل هو نضال وطني ضد وجود استعماري استيطاني يروم إضعاف الأمة وطمس هويتها ومحو وجودها إن استطاع إلى ذلك سبيلا. هذه هي الحقيقة وما عداها فليٌّ لأعناق الحقائق ولفٌّ ودوران وخلط وخبط ليس له إلا تفسير واحد وهو خلط الأوراق والتلبيس على القراء وإخفاء الحقيقة بدعوى الحرص على تجفيف منابع الصراعات وإعادة بناء العلاقات على أساس احترام مبدأ المصلحة المتبادلة والتعايش المشترك.
إن الروح التوافقية التي وردت في خطاب التكليف والتي يسعى الرئيس ماكرون إلى ترسيخها بين الجزائر وفرنسا في الفترة الحالية ينبغي أن لا تكون على حساب دماء شهدائنا الذين بذلوا أرواحهم من أجل تحرير الديار وطرد الاستعمار، كما ينبغي أن لا تكون على حساب مبادئنا التي ضحّى ويضحِّي من أجلها الوطنيون الخيّرون الغيورون على دينهم ووطنهم، كما ينبغي أن لا تكون على حساب تضحيات أسلافنا من أجل الاستقلال والانفصال عن فرنسا فكرا وسلوكا.
واستتوقفتني في تقرير ستورا هذه العبارة: “ليس عرض الماضي بالأمر الهيّن حين يتعلق الأمر بحرب الجزائر التي تشمل عدة فئات من الأشخاص المصابين بالصدمات (الجنود والضباط والمهاجرون والحركيون والمستوطنون الأوروبيون والأقدام السوداء والوطنيون الجزائريون)”.إن الاستعمار ليس من الماضي الذي يجب نسيانه وتجاوزه كما يعبّر عنه ستورا، كما أن وضع الجنود والضباط والمهاجرين والأقدام السوداء والمستوطنين في كفة واحدة أمرٌ مرفوض لدينا حتى ولو كانت الغاية منه كما قال هي نسيان الماضي وتقريب وجهات النظر وبناء جسور العلاقات بين فرنسا والجزائر حاضرا ومستقبلا.
إن فكرة “التعايش المشترك“ التي يتحدث عنها ستورا تبدو رغم وجاهتها من حيث المعطى العامّ فكرة ضبابية وربما فكرة مضللة لأن هذا التعايش دونه عمل شاق واعترافات واعتذارات ووضع للنقاط على الحروف وبيان الانحرافات أو المغالطات والمهاترات التي يتولى كبرها اليمينُ المتطرف في فرنسا الذي يريد تفسير وتسيير ملف الذاكرة حسب هواه، بما يخدم أفكاره العنصرية التي تعدّ نسخة جديدة للاستعمار التي لا نطمئن لها ولا نرضى بها ونرفضها جملة وتفصيلا.