من أجل صناعة وطنية حقيقية وقوية

نجحت فرنسا عام 1830 في دخول الجزائر واحتلال أراضيها، ليس بكثرة الجنود أو مجرد البراعة الحربية لقادتها، بل لعدة عوامل، أبرزها تقدم القدرات الصناعية العسكرية للجيش الفرنسي وتفوّقه الاستراتيجي.
وإذا كنا اليوم، بفضل الله عز وجل وتضحيات سادتنا الشهداء الأشاوس والمجاهدين المخلصين نفتخر بقدرات الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير المبارك، فنحن كذلك مدعوّون، بحزم وعزم غير متناه للاجتهاد بكل ما أوتينا من قدرة لبناء صناعة وطنية قوية، وامتلاك ناصية القدرات التكنولوجية الفتاكة في شقها المدني والعسكري، لتأمين احتياجاتنا في عالم متقلب سياسيا واقتصاديا، وفقا للتحولات الكبرى التي قد تفرض علينا باستمرار مواكبتها، مع التمسك بمبادئنا الثابتة.
والأهم، كما قال المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله، أننا نمتلك التراب، أي ثروات الأرض من بترول وغاز ومعادن، والتي يجب استغلال معظمها محليا عبر إنتاج صناعي متقدِّم ذي قيمة مضافة موجّه للتصدير. كما نمتلك الإنسان، سواء من النخب الوطنية في الداخل أو في الدياسبورا، القادرة-إذا استُغِلّت بالطريقة الأجدى- على تغيير وجه المستقبل الجزائري. ولدينا أيضًا وقت السلم، الذي يجب أن نطبّق فيه القاعدة الذهبية: “إذا أردت السلم، فتهيأ للحرب”. وأهم استعداد لأي حرب هو الجاهزية الاقتصادية، والصناعية، والغذائية، في ظل جبهة وطنية موحّدة وسلم مجتمعي صلب.
الصناعة مركز قوة الدولة
يقول سلامة كيلة في كتابه “النهضة المجهَضة” في مقدمته “وكان هذا الوضع قد أوصل إلى نشوء الصناعة التي أدت إلى انقلاب هائل في مسار التاريخ البشري… لكن الأهم هو أن الصناعة جلبت فيضًا من الإنتاج الضروري للبشر، والذي يبحث عن أسواق يحل فيها، كما أدت إلى تطور هائل في الحرب عبر تطوير أدواتها، مما شكل للدول الأوروبية جيوشًا قاهرة”. حيث تكمن المسألة الجوهرية في هذا المقال في بعدٍ أساسي واستراتيجي: نحن نملك الطاقة والموارد، ونمتلك النخب والكفاءات، وإذا كنا بحاجة إلى خبرات إضافية، يمكننا استقطابها أو تأهيل طلابنا في جامعات عالمية رائدة تجمع بين التفوق النظري والتطبيقي، وصولا إلى بناء نخب استثنائية قادرة على قيادة مشروع نهضوي جزائري حقيقي.
وعليه، نحن هنا نعاني من عدم وجود نموذج، مخطط، أو إستراتيجية كبرى ثابتة الملامح، مُحكمة التخطيط، وفق حيز زمني صارم ومُستدام، لنغطي الاحتياجات ونزرع المصانع كما الحقول، ونغطي شُعب الإنتاج، ونواكب تقدم التكنولوجيات والتحولات الصناعية الكبرى. ونجعل صناعتنا الوطنية المدنية جاهزة لأي حرب أو معركة إذا فُرضت علينا الحرب الاقتصادية، بينما نطور بحزم الصناعات العسكرية، وخاصة التكنولوجية والسيبرانية والأنظمة المسيَّرة، لنكون جاهزين لحروب الجيل الخامس، وهي حروب تسعى للتحكم في سيكولوجية الجماهير قبل إسقاط الأنظمة وتفكيك سيادة الدول.
تقول روبين ميرديث مؤلفة كتاب “الفيل والتنين.. صعود الهند والصين ودلالة ذلك لنا جميعا”، وهي الكاتبة الاقتصادية المخضرمة التي تابعت من إقامتها في هونغ كونغ ورحلات متكررة للهند والصين صعود العملاقين على عرش الاقتصاد العالمي “ولكن لم تكد تهبط الطائرة وتستقر على الأرض حتى شاهد السيد فاجبايي ما ظن أنه على وجه القطع واليقين ضربٌ من خداع البصر: آلاف المصانع تحيط بالعاصمة بكين شُيِّدت جميعا خلال العقد السابق على وجه التقريب. ويقدِّم كل منها بشكل منتظم رواتب ثابتة، ومعها حلم غاب طويلا ببناء حياة أفضل. ها هي الصين انتقلت من الماضي إلى المستقبل مباشرة”، وقد “جاءت زيارة الوفد الهندي برئاسة فاجبايي للصين بعد ربع قرن من تاريخ بداية التحول في الصين.
وقد جاءت زيارة الوفد الهندي برئاسة فاجبايي للصين بعد ربع قرن من بداية التحول في الصين.”ويتوافق تاريخ الزيارة مع الوقت الذي شهد فيه ملايين الصينيين فرصهم في النجاح تتحسن على نحو مثير مع الانطلاقة المدوّية للاقتصاد الصيني، وصبَّت الشركات الأجنبية أكثر من 600 مليار دولار داخل الصين منذ العام 1978، وهو مبلغ يتضاءل أمامه كثيرا ما أنفقته الولايات المتحدة على مشروع مارشال، لإعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وشيَّد الأجانب مئات الآلاف من المصانع في مختلف أنحاء الصين، واستخدموا عشرات الملايين من الأيدي العاملة. ويبلغ متوسط ما يكسبه العامل الصيني الآن ما يزيد تقريبا خمسة أضعاف على ما كان يحصل عليه قبل الإصلاح، كما امتلك الملايين الهواتف المحمولة والحواسب، بل وسيارات وشققا للسكن”.
اقتصاد.. الإصلاح والانفتاح
لقد فتح القائد الصيني دينج شياو بينج الساحل الصيني على مصراعيه للراغبين في الاستثمار الصناعي، وجعل المناطق المحاذية لهونغ كونغ وتايوان مناطق حرة للاستثمار الصناعي. ومن خلال المصانع والموانئ الصينية الضخمة، تتدفق السلع اليوم. ولأننا في الجزائر بحاجة لصورة مرآة عاكسة، يجب علينا فتح مناطق حرة للاستثمار الصناعي بعيدًا عن أي قيود، وفق رؤية معمقة ومخطط مدروس يهدف إلى توفير مصانع تُركز على التصدير بالأساس، وتغطية الاستهلاك الوطني لتقليص الاستيراد إلى الحد الأدنى، مع دمج أكبر قدر ممكن من اليد العاملة. فاليوم، وبشكل حاسم، يجب أن نضع مخططًا وطنيًا يعتمد على تشجيع الصناعات التي تستهلك كتلًا ضخمة من العملة الصعبة عبر الاستيراد. وعلى الدولة نفسها من خلال شباك الاستثمار أن تدعوا وتجلب المستثمرين وتوفر لهم الضمانات الكافية للعمل بشكل مستقر ومستدام.
“نحن مدعوون لجلب أكبر قدر ممكن من شركات الصناعات الثقيلة والمتوسطة، وتشجيع إنشاء شركات وطنية في مختلف الصناعات، خاصة الصناعات التكنولوجية والاستراتيجية. وأول مسار نحو ذلك هو أن نكون أكثر واقعية في إدارة علاقاتنا الدولية، وأن نفتح الباب على مصراعيه أمام كل مشروع اقتصادي يساهم في توظيف الجزائريين، وتأهيلهم تقنيًا، وتوفير السلع بأسعار تنافسية. كما يجب أن يوفر هذه المشاريع للبلاد القيمة المضافة لتقليص الاستيراد وترقية التصدير. علاوة على ذلك، ينبغي فرض معايير تنافسية أكثر صرامة على الشركات العمومية…”
وفي هذا الصدد، ينبغي تحرير المصانع والمؤسسات العمومية عامة من عقلية التسيير التي تعتمد على النظرة الحكومية التقليدية والاجتماعية. كما قال الخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان، مؤلف كتاب “التجربة الاقتصادية الصينية… حزب واحد يبني اقتصادًا رأسماليًا”؛ إن الصينيين بثّوا في روح القطاع العامّ فكر التسيير بمنطق القطاع الخاص، فتحولت مؤسسات الدولة الصينية مثل هواوي وشاومي وشركات البناء الكبرى إلى إمبراطوريات اقتصادية عالمية متمددة. وفي إحدى مقالاته بعنوان “عن الصين… التنمية الأكبر والأكثر تعقيدًا” في موقع حرمون للدراسات، يقول: “لم تتبع الصين نصائح المؤسسات الداعية إلى حرية السوق المطلقة والخصخصة والدولة النحيلة… بل لم تتبع أي نهج إيديولوجي ثابت، بل اتبعت نهجًا براغماتيًّا، تقوده أهدافٌ محددة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية دون السياسية.”
لقد تضاعف الاقتصاد الصيني 40 مرة في ظرف 40 سنة وهو يقترب اليوم من ناتج الولايات المتحدة الأمريكية بخطى ثابتة، وتحوّلت الصين إلى مصنع العالم بفضل الدافعية الكبرى التي أدمجت شركات الإنتاج العالمي في اقتصادها رغم أنها دولة شيوعية حمائية إيديولوجيًّا، لكنها واقعية وبرغماتية اقتصاديًّا، لذلك فنحن مدعوون لجلب أكبر قدر ممكن من شركات الصناعات الثقيلة والمتوسطة وتشجيع إنجاز شركات وطنية في مختلف الصناعات، خاصة الصناعات التكنولوجية والإستراتيجية، وأول مسار هو أن نكون أكثر واقعية في إدارة علاقاتنا الدولية، وأن نفتح الباب بمصراعيه أمام كل مشروع اقتصادي يوظف جزائريين ويؤهِّلهم تقنيا، ويوفر لهم السلع بأسعار تنافسية، ويوفر للبلاد القيمة المضافة لتقليص الاستيراد وترقية التصدير، كما يجب فرض معايير تنافسية أكثر صرامة على الشركات العمومية وحرية تامة في التوظيف والتسريح وفقا لمنطق الكفاءة والإنتاجية والحاجة، مع تحرير الأسعار الحمائية وتحويلها للأجور وبطاقات تموين للفئات الهشة مع فرض معايير صارمة للإدماج الاقتصادي لتقليص أكبر قدر ممكن من روح الاتّكال وبث روح التحفيز الاقتصادي والعمارة.
كما يجب إعادة هيكلة الجامعات وتحويل كوادرها في مختبرات البحث إلى نخب تفكير وتطوير اقتصادي للإنتاج الصناعي وترقية وتنمية النموذج الصناعي، ويجب تحويل كتلة البحث إلى الثلاثي الاستراتيجي: الصناعة وخاصة الصناعات الإستراتيجية والتكنولوجية، الفلاحة، والصحة، وهي جوهر ترقية القطاع الصناعي والإنتاجي نتيجة الترابط بين الإنتاج الصناعي والصناعات الفلاحية والدوائية، فضلا عن تكوين مهنيين وتقنيين ومهندسين مُحترفين وفق المعايير العالمية، ليكونوا مؤهَّلين للعمل في الشركات الأجنبية، فضلا عن مراجعة قوانين العمل لتفرض مرونة أكثر بين حفظ حقوق العمال وتحقيق التزامهم المهني.
إن تطوير الصناعة الوطنية يتطلب منا قراراً حازماً وإرادة جبارة ومخططاً مستداماً ومتواصلاً، مع ضرورة النظر إلى التجارب العالمية الناجحة والاستفادة منها. فها هو نموذج فيتنام التي بلغ حجم صادراتها من الصناعات التكنولوجية أكثر من 120 مليار دولار، في حين بلغ ناتجها القومي في 2024 رقم 476.3 مليار دولار، مما يعزز مكانتها كمركز عالمي للتصنيع. كما بلغت صادراتها في عام 2024 نحو 405.53 مليار دولار، بينما استقبلت في 2023 استثمارات عالمية بلغت 36.6 مليار دولار. ويتوقع الخبراء لها مستقبلاً اقتصادياً واعداً في العقد المقبل، حيث تمثل الصناعة والبناء 38.03 بالمائة من حجم الاقتصاد، بينما تمثل السلع الصناعية 88 بالمائة من إجمالي الصادرات.