-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من أجهض مشروع المقاربة بالكفاءات؟

من أجهض مشروع المقاربة بالكفاءات؟
ح.م

اجتاح مفهوم: “الكفاءة” في العقدين الأخيرين ميدان التربية، واكتسحه اكتساح المسيطر والنافذ الذي ملأ دنى المربين وشغل عقولهم بعد أن مرّ بالتكوين المهني، وخلف فيه أثر بصمته التي لا تُمحى. وأصبحت الكفاءات، في السنوات الأخيرة، هي الدعامة التي تُبنى عليها المناهج التعليمية في مختلف المواد التدريسية. وبذلك تمكنت المقاربة التدريسية بالكفاءات ((APC من إزاحة منافستها التي سبقتها في وقت قصير، وهي المقاربة التدريسية بالأهداف ((APO التي ألهمت الكثير من رجالات التربية الكبار المعاصرين، وأشبعوها بحثا وشرحا وتوظيفا. وأصبحت روح هذه المناهج تظهر في صورة قوائم لكفاءات محددة حتى ما كان منها مرتبطا بالتعليم الابتدائي كما كان الشأن في زمن التدريس بالأهداف.

جاء مفهوم “الكفاءة” إلى ميدان التربية مهاجرا إليه من بعيد، وغازيا لبقعته. وفي طريق هجرته، مرّ بمَواطن أخرى تجاوبت معه بطرائق مختلفة. ووجد في محطته الأخيرة بيئة مناسبة بسبب ما لقيه من الترويج الذي فاق كل تقدير. وفي فترةٍ وجيزة، أصبح هذا المفهوم الأنيق يقابَل بمئات التعريفات التي تستعرض مواصفاته البديعة والمغرية حتى يقبل المربُّون عليه. وجرى ربطه بمفاهيم أخرى مكمِّلة لوجوده، وأصبحت تلازمه ملازمة الظل لشيئه. وشُكلت له امتداداتٌ في الحياة الخاصة والأسرية والاجتماعية، كما شُيِّدت له جسور في الحياة المهنية المستقبلية للمتعلم. وهذا ما حذا بالمربي الباحث Le Boterf، ومن باب الحث على الإكثار من توظيف الكفاءات، حذا به إلى القول: (على خلاف بطارية واندر Wonder المعروفة في الإشهار، فإن الكفاءة لا تنفد ـ أي لا تفنى ولا ينقطع عطاؤهاـ  إلا بالهجران، أي بعدم الاستعمال). بمعنى أن ترك تشغيل الكفاءات يجعلها تنتهي إلى الفناء، وبذلك يأتي عليها الهلاك، فلا غنى من ملازمتها ملازمة مفعمة داخل الأقسام الدراسية وخارجها، فالكفاءة لا تتطور ولا تزدهر إلا بالتكرار والمراس وكثرة التدريب.

يلتقي نموذجا التدريس بالكفاءات والتدريس بالأهداف في اعتمادهما على قدرات المتعلم. وفي الوقت الذي يوظفها النموذج الأول (التدريس بالأهداف) توظيفا انفراديا منعزلا بعد أن يوفر لها سياقات التفعيل المناسبة، فإن النموذج الثاني (التدريس بالكفاءات) يعمل على دمج القدرات ذات العلاقة بالتعلم دمجا محكما. وهذا يعني أن المكتسبات البيداغوجية السابقة تظل محفوظة، وأن الانتقال الحاصل هو محاولة تطويرية ترمي إلى علاج النقائص السابقة الملاحظة في مستوى تحضيرات المعلمين والأساتذة وفي أداءاتهم الفصلية. وترغب في تعزيز أدوار المتعلمين في كل المواقف التعليمية التي يمرُّون بها داخل الأقسام. ومن ثم بلوغ مراتب الشعار الذي يعبِّر عن هذا الجهد المشكور والمحمول في العبارة التالية: (يتعلّم المتعلم كيف يتصرّف).

مرّ على تبني هذه المقاربة التدريسية (التدريس بالكفاءات) أكثر من عقدٍ ونصف عقد من الزمن في منظومتنا التربوية. ولعل وقعها الآسر جاءنا من قوة الترويج الذي ظل يبشر بنجاعتها ويزف إلى المربين محاسنها ومناقبها. ولا أعتقد أن هناك من يقف معارضا ورافضا لكل تجديد مفيد. ولكن المشكلة هي أن هذه المقاربة المعتمَدة بقيت حبرا مسكوبا على الورق، واستمرت مادة دسمة حاضرة في أحاديث المعلمين والأساتذة، ولكن قلَّما نصادف لها أثرا في الفصول الدراسية في مختلف مستويات التعليم وفي العمليات التقويمية الرسمية التي تشرف عليها وزارة التربية الوطنية وفي التقويمات الفصلية التي تُجرى في المؤسسات التعليمية. والسؤال الذي يقفز إلى الأذهان هو: هل هذه المقاربة التدريسية سُنَّت للتطبيق أم لمجرد المغازلة والتغني؟ وأمسى حالنا كمن يشم رائحة الشواء، ولكنه لا يرى قطع اللحم المشوية على خوانه!.

تقف خلف تعطيل كل مشروع منشود أو إبطاله أو كبحه أسبابٌ تكون مقصودة أحيانا، وعراقيل أخرى لم تكن موضوعة في الحسبان تشتركان في إجهاضه في أسوأ الحالات، وقد تعملان على تشويهه وتبديده في أقلها ضررا. ويدرك المتابعون المهتمّون بتقلبات الشأن التربوي أن العوامل التي أفقرت وصحَّرت مردود الممارسة التدريسية بالكفاءات تحضيرا وأداءً وتقويما متشعِّبة وذات جذور متعددة، ومنها:

ـ أن توحيد دلالات المفهوم الرئيس لهذه المقاربة، وهو مفهوم: “كفاءة” وزمرة المفاهيم المرافقة له، لم يتحقق بين مختلف المواد التعليمية. وقد ترتب عن ذلك اختلافاتٌ في التعريفات وفي الفهم. ومن يجري قراءة مقارنة بين مضامين مناهجنا التعليمية يكاد يقتنع أنها لا تنتمي إلى نظام تعليمي واحد. وانعكست هذه الاختلافات في الميدان، وقللت من حظوظ التنسيق والتحاور والتشاور بين منفذي هذه المناهج، خاصة في مستويي التعليمين المتوسط والثانوي.

ـ أن هذا الفعل التجديدي جاء مفاجئا ومرتجلا، وأهمل التهيئة النفسية والتكوينية الفردية والجماعية للمعلمين والأساتذة والمفتشين والمديرين. ولم يسبق التخفيف من قوة الصد عند أغلبهم التي تبرز منتصبة لمقاومة كل تحديث حتى وإن كان مريحا ومربحا ومجوّدا للمخرجات.

ـ أن من كُلّفوا بإعداد المناهج الجديدة وفق المقاربة التدريسية بالكفاءات لم يتخلصوا من قناعاتهم السابقة المتورمة التي أثقلت هذه المناهج، ومن ذلك النظرة الكمية للمعارف المطلوبة. فالموسوعية المعرفية لا تتوافق مع التدريس بالكفاءات؛ لأنها تدفع بالمعلمين والأساتذة إلى منح اهتمام زائد لها على حساب عناصر أخرى مرتبطة ببناء الكفاءات التدريسية المسطرة. وسنعود إلى هذه النقطة لتوضيحها أكثر في مقال لاحق.

ـ أن الاعتقاد القاصر الذي شاع وساد في البدء لم يأت أكله. فالظن بأن إعادة صياغة المناهج وحده يكفي لبلوغ المرامي كاملة كان ظنا باطلا. وكان يفترض أن تذهب موجات “الثورة التغييرية” متعقبة كل ما له علاقة بعملية التدريس في كل مراحلها. وأن ينطلق التغيير في رحلة طويلة حتى يُلقي بظلاله على كشوف نقاط المتعلمين وما يُسجَّل فيها من ملاحظات وتوجيهات.

ـ أن هيئة الإشراف التربوي المشكَّلة من مفتشي الجيل الثاني ظلت عاجزة عن تدارك الاختلالات المرصودة عن طريق تكوين المعلمين والأساتذة، وتزويدهم بالأدوات الإجرائية التصحيحية التطبيقية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وبدل أن يكونوا منقذين لمشروع هذه المقاربة من الضياع، والدفع به إلى الترشيد من بعد المرافقة التوجيهية لمن يشرفون عليهم، ظلوا متشبثين برؤاهم السابقة التي تجاوزها الزمن. ومنهم حتى من ناصب هذه الخطوة التجديدية العداء، وقابلها بالتجاهل ورماها بالعقم مسبقا. فمن من مفتشي التربية والتعليم ومفتشي الإدارة يقوّم من يشرف عليهم على أساس كفاءات محددة حتى يرسخ هذا التوجه المستحدث في عقولهم وفي تفكيرهم؟.

ـ أن هناك من استهان بالأمر وراح يستبق الأحداث توهما منه أنه أمرٌ هيِّن وفي متناول الأيدي كلها حتى الكسيحة منها. وراح يستغل الفرصة للتكسُّب غير المشروع قبل فوات الآوان، ورأى أن مكتسباته الضحلة والشاغرة تكفي لسد حاجات المعلمين والأساتذة لتحصيل معارف نظرية عن هذه المقاربة التدريسية الجديدة وللإجابة عن تساؤلاتهم. وانطلقوا يخربشون أوراقا صفرا شاحبة فيها هراء وهذيان زادت الغريق غرقا والظلمة دكانة. ومما قرأت في كتاب سماه واضعه: “التدريس الفعَّال بواسطة الكفاءات” قوله التالي الذي لا يستقيم على أي وجه ولا يسمن ولا يغني من جوع: (والتدريس بواسطة الكفاءات ليس ذلك التدريس الروتيني الذي يقوم به المعلم خبطاء ـ هكذا كتبهاـ عشواء ينتهج خلاله طريقة الخطأ والصوب، فتارة يخطئ، وتارة يصيب، أو يقلد نموذجا معينا كما هو، دون تكييف مراحله وشكله، والتصرف في محتواه، أو يتبع من سبقه دون نقد أو تحوير. بل التدريس بواسطة الكفاءات هو ذلك التدريس الذي يتم عن دراية، ويتركز على أسس، ومبادئ، ومنهجية مضبوطة، وعناصر متكاملة فيما بينها…). وعلى درب هذا “المنهج” المعوج والمرضوض سار المتاجرون في وضع “الكتب التعليمية” التمائمية الموازية للكتب المدرسية.

ـ يتطلب التدريس بالكفاءات جهدا بحثيا ذاتيا إضافيا يقوم به المعلمون والأساتذة الممارسون لجمع ما يعينهم على تحضير دروسهم وتنقيحها يوميا من بعد تقويم أداءاتهم. ولكن صرف أوقات معظمهم في ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” التي تعتمد على حلّ التمارين، جعلهم يركنون إلى السكون الذي يشبه الجمود، ويكتفون بالتكرار والاجترار. فكيف يسهم معلم أو أستاذ في التغيير وهو لم يكلف نفسه قراءة ولو مقالة تربوية واحدة مؤلفة من عدة صفحات تتحدث عن المقاربة التدريسية بالكفاءات؟. ومن لا يقوى على تغيير نفسه لا يطمع في تغيير غيره.

من أجهض مشروع المقاربة بالكفاءات؟ لم يكن سؤالا يُطرح في غير تعسف لولا رؤية كثرة الفتوق والشقوق التي عوّرت حصيلة مخرجات مدرستنا في بشاعة ووظاعة، ورمتها بسهام قاتلة. ومع قتامة المنظر، فهل نطمح في ثورة إصلاحية ثانية تقوم بها وزارة التربية الوطنية، وتضع من خلالها النقاط على الحروف، وتقوّم ما أفسده الدهر طالما أن من بين مواصفات مفهوم “الكفاءة”: معرفة التجديد؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • أستاذ

    المقاربة بالكفاءات نظام فاشل ... ولا يدافع عنه إلا جاهل بالتعليم والبيداغوجيا
    وليس فاشلا وحسب بل هو إفساد ... ومسطر لتحطيم العقول والذكاء
    رجاء لا تتكلموا فيم لاا تحسنون

  • مدير التربية/ وفاء للوطن

    عندما ينظر الينا نحن الشباب الوطنين الغيورين على هذا الوطن سنرفع من قيمة مردود التعليم وانا اتحدث عن نفسي ساكون وفي لخدمة وطني