من جهنّم إلى جنة عدن

كما كان متوقعا، تكشف الساعات القادمة مدى قدرة الرئيس الأمريكي على نقل الكرة إلى ملعب الكيان، وإلزام رئيس وزرائه بقبول حل شامل توافقي لمسألة الشرق الأوسط بدءا من وقف “الحرب الوحشية” على غزة على حد وصفه.
الحل التوافقي كما يسميه الإعلام الرسمي الأمريكي، يفيد أن نتنياهو كان يعرف، بل ويحفظ الدرس الأمريكي، لكنه في واقع الأمر كان يلعب معه لعبة الغميضة لحساباته السياسية الضيقة، بعيدا عن رؤية ترامب وحساباته الاقتصادية النفعية، ضمن رؤية إدماج الكيان في جغرافيا الشرق الأوسط على قاعدة دولة فلسطينية كما يطالب العرب.
هذا التوجُّه لا يخدم رؤية نتنياهو ضمن حكومة اليمين المتطرِّفة التي تعمل وفق مشروع صهيوني ديني توراتي يتصور هيمنة الكيان على كامل المنطقة من النيل إلى الفرات، وليس مجرد اندماج. هنا تتقاطع وتتصادم الرؤيتان، وإن كانت لهما الأهداف نفسها.
لهذا، كان على ترامب أن يوضح لرئيس وزراء الكيان، منذ البداية، أنه هو أكبر صديق لدولة الكيان وله شخصيّا، رغم المآخذ السابقة عليه أثناء إقدام نتنياهو على تهنئة بايدن بالفوز في الانتخابات السابقة قبل أن يجف حبر النتائج التي لم يعترف بها ترامب إلى غاية اليوم. وقتها، وصلت العلاقات بينهما إلى ما تحت الحضيض.
ترامب لا ينسى، حتى وإن تناسى، لكنه بالمقابل لا يريد أن يتخلى عن الكيان ولا يستطيع ذلك، بسبب بنية المجتمع الأمريكي المتحكّم في تركيبة النظام السياسي والاقتصادي، لاسيما الحزب الجمهوري والكونغرس. فرقٌ أن تساند الكيان وأن تساند رئيس وزراء الكيان، لكن ترامب أعرب لنتنياهو أنه يساند الاثنين معا، وفعل مع نتنياهو في بداية عهدته الثانية ما لم يقدّمه حتى بايدن خلال أكثر من سنة من حرب قذرة وإبادة وحشية، بل أن ترامب هو من أعلن “الحرب الجهنمية” على غزة إن لم تطلق سراح الرهائن فورا. وكان أن أطلق الحبل للوحش ليعيث فسادا بذخائر مجمَّدة من عهد بايدن، وسمح لنتنياهو أن يفعل ما يشاء وأطلق له الحبل على الغارب من أجل إكمال ما عليه فعله، كما طلب منه حتى قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة.
يبدو أن ترامب فتح لرئيس وزراء الكيان وحكومته الفاشية شهيَّة مواصلة الإبادة حد الوصول إلى إلغاء شعب بأكمله وسحق البشر والحجر وإجبار من تبقى على الهجرة وتحويل غزة إلى مشروع استثماري عقاري سياحي على أنقاض جماجم الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين من كل الأعمار.
مدَّد ترامب الفرصة لتحقيق ما لم يحققه مع بايدن، لكن هذه الفرصة لم تكن بلا نهاية. هذا ما جعل ترامب يعطي إشارة لنتنياهو أنّ عليه التوصل إلى صفقة مع بداية ماي، كونه كان يخطط للسفر إلى الخليج العربي منتصف ماي، وأنّ عليه أن يسافر وفي جعبته نتائج ملموسة لمشروع “إبراهيمي” في نسخته المنقَّحة الجديدة، لاسيما وأنه سيذهب ليعود بمشاريع استثمارية ضخمة في الولايات المتحدة، وألا يسمح نتنياهو لنفسه بعرقلة هذا التوجُّه الذي يصبّ أصلا في صالح ترامب، ثم الكيان، ثم أنظمة بلدان المنطقة ومنها دول الجوار ومع إيران.
في انتظار عراقيل نتنياهو من جديد، سنرى موقفا أمريكيًّا آخر يبشّر بالانتقال من جهنم إلى جنة عدن، وجولة جديدة من المفاوضات قد تسقط حكومة اليمين في الكيان وذهاب إلى انتخابات مسبقة، لكن غزة الصامدة، ستبقى وستظل عنوانا تاريخيا لكل أشكال المقاومة والصمود أمام أعتى قوة عالمية ومحتل غاشم.