من رسائل رمضان: الجوهر قبل المظهر (2)

بعد أن أشارت الآية الثالثة من آيات الصيام: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان))، إلى مَعين الهداية الأوّل، حملت الأمر بصيام شهر رمضان: ((فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ))، وهو الأمر الصريح المحكم الذي يفيد الفرضية والوجوب والناسخ للتخيير الذي كان قبله، لكنّ الآية تحدّثت بعدها مباشرة عن رحمة الله بأهل الأعذار، حيث شرع الفطر للمريض والمسافر، لأنّه –سبحانه- يريد بعباده اليسر ولا يريد العسر، ويريد منهم ما هو أهمّ وأعظم من ترك الطّعام والشراب والشهوة، يريد منهم أن يكبّروه ويعظّموه ويعظّموا أمره ما استطاعوا: ((وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)).
في الآية التي بعدها: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))، يشحذ المولى –سبحانه- همم عباده المؤمنين بأنّه غنيّ عن صيامهم وإنّما شرع لهم الصوم ليثبتوا استجابتهم له وإذعانهم لأمره، فيتقربوا منه زلفى، ويكونوا أقرب إلى رحمته وفضله وتحصيل ما يصلح دنياهم وأخراهم.. إنّهم ينقصون شيئا يسيرا من دنياهم، ليظفروا بالزلفى منه ويحظوا بإجابة دعواتهم ونيل رغباتهم، ومهما غابت عنهم الحكمة ممّا أمروا به فإنّ ما يجدونه ثوابا عاجلا وآجلا لاستجابتهم لأمر ربّهم كفيل بتسلية نفوسهم وإسعاد أرواحهم، كيف لو وقفوا على الحكم الجليلة للصيام وعلموا أنّه يسمو بأنفسهم عن التعبّد للمآكل والمشارب، ويعلو بهممهم عن التفاني في حظوظ الجسد الفاني، إلى الاهتمام بمطالب الروح العلوية وهي المطالب التي تورث الراحة النفسية، وحتى الأجساد الأرضية الآيلة إلى الفناء والتحلل فلها نصيب من ثمرات الصيام، فهو يخلصها من السموم المتراكمة ويكافح شيخوختها المبكّرة، ويقوّي القلب وينظّم عمل الجهاز الهضمي.
فهذه الآية الرابعة من آيات الصيام، تصقل نية الصائم ليكون غرضه من صومه الاستجابة لأمر الله، رغبة في أن يقرّبه الله ويستجيب دعاءه ويبّلغه غايته، هذا المعنى الجليل يحدو العبد المؤمن ليتلمّس حاله مع أوامر الله كلّها، وينظر مدى استجابته لربّه فيما تحبّه نفسه وفيما تكرهه وتنفر منه، فقد تكون الاستجابة للأمر الذي يوافق هوى النّفس سهلة ميسورة، ولكنّ أثر الإيمان يظهر حينما يخالف الأمر هوى النفس وميلها!
ثمّ تأتي الآية الخامسة والأخيرة: ((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ…))، لتبدأ ببيان رحمةٍ من رحمات الله خلال شهر الصيام، وهي إباحة قضاء الوطر في ليالي رمضان، وتثنّي بإباحة الأكل والشّرب حتّى بزوغ الفجر، وتؤكّد على أنّ وقت الصيام يمتدّ من وقت الفجر إلى الليل، قبل أن تختم بالترهيب من تجاوز حدود الله ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا))، وكأنّها تنقل العبد من الجزء إلى الكلّ، ومن الخاصّ إلى العامّ؛ فالصّائم الذي يحرص غاية الحرص على لزوم حدود الصيام الظّاهرة (الإمساك، والإفطار)، ينبغي له أن ينظر في حاله إن كان يحفظ حدود الله الأخرى فلا يتعدّاها؟ وإذا كان يحرص على الإمساك عن الحلال في وقت محدّد، فليكن أكثر حرصا على الإمساك عن الحرام في كلّ وقت، وإذا كان يصبر على ترك الشهوة الحلال في نهار رمضان حرصا على صحة صيامه وخوفا من الكفارة، فليكن أكثر حرصا على ترك الشّهوة الحرام في كلّ وقت حرصا على سلامة دينه وخوفا من عقاب ربّه.
وفي آخر آيات الصيام، يتجدّد الحديث عن الغرض الأسمى لتشريع الصيام، فيقول سبحانه: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون))؛ فالحكمة من كلّ الأحكام المتعلّقة بالصّيام ليست إعنات النّاس، إنّما هي تحصيل التقوى والخوف من الله واستشعار رقابته، والتقوى هي الكفيلة بالحيلولة بين العبد وبين تعدّي حدود الله والتماهي مع مطالب الجسد الأرضي وشهوات النفس التي لا تقف عند الحلال بل تتعداها إلى الحرام!