من عطّل حواسّه صُرف عن الحقّ
إذا كانت العين في غطاء عن النّظر لن تنقل شيئا للعقل. وإذا كانت الأذن مصروفة عن السّمع فلن تنقل من المسموعات شيئا للعقل فيعيش الإنسان محروما من وعظ النّفس ومن حقّه في معرفة ربّه؛ فلا يعترف بضعفه أمام قتامة أسداف الغيب التي لا يرفع عتْمتَها ولا يبدّد ظلمتَها إلاّ سماعُ كلام ربّ العالمين.
أما علوم البشريّة فقليلة أمام ما يكشف الله عنه من لطائف علم الغيب عنده وما أوتىّ الناس من علم قليلٌ لا يستقلّ بمعرفة الغيب ولا بالإخبار عن الله -جل جلاله- وعمّا بعد الموت، فلا يعرف الإنسان ربّه كما عرّف به هو -جل جلاله- ذاته في مثل قوله: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) (طه: 14)، فالغيب سماع لا يمكن للعقل أن يستقل بمعرفته إلاّ سماعا من الكتاب والسنّة كشْفا بالوحي لا يستدلّ عليه العقل بمنطق المقدّمات والنّتائج إلاّ ما كان من قيّاس الأوْلى استنادا إلى النّقل.
الله -جل جلاله- ثم الملائكة -عليهم السّلام- ومنهم أمين الوحي جبريل -عليه السّلام-، والجنّ ومنهم إبليس، والعرش، واللّوح، والكرسيّ، والقلم، والرّوح، والصّراط، والميزان، وحياة البرزخ، وسؤال القبر ونعيمه وعذابه، وحياة الشّهداء عند ربّهم (جل جلاله)، والسّاعة وعلاماتها الكبرى؛ ومنها خروج يأجوج ومأجوج وعيسى -عليه السّلام- والدخان والدابّة وشروق الشّمس من مغربها، كلّها سمعيّات لا يمكن للعقل إدراكها بالحسّ أو الكشْف عنها بالبحث المخبريّ.
روى الشّيخان عن أمّ حبيبة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: “لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب؛ فُتح اليوم من ردْم يأجوج ومأجوج (وحلّق بيده عشرة) قالت: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث”. فإذا كان ردْم يأجوج ومأجوج قد فُتح منه مقدار ضئيل في زمن المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- فإنه يوشك اليوم أن يتداعى ويجعله ربّي دكّا.
هذه معتقدات غيبيّة يوقن بها قلب كلّ مؤمن ولا يمكن لعقل غير المؤمنين ـ مهما كان ذكاؤه وسعة علمه – الاستقلالُ بمعرفتها أو التّسليم بجريانها إلاّ إذا ركن إلى سماع ما جاء به الوحي ونطقت به السنّة.
أخبر المولى -جل جلاله- عن بداية خلق الكونـ، فأيقن “عقل الإيمان” بمطابقة المنقول للمعقول. وأخبر عن نهايته سـواء بسـواء، فلماذا يسلّم العقل بصدق البداية ولا يركن إلى صدق النّهاية: “كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ” الأنبيّاء: 104، فالمؤمن يسلّم بكلّ ما جاء في كتاب الله تعالى وبما صحّ عن رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- من حديث الغيب على وجه الإجمال، وليس واجبا عليه الخوض في التّفاصيل إلاّ إذا كان من أهل الذّكر أو ممّن يتصدّون للدّعوة والبلاغ عن الله ليردّوا عن دينهم الشّبهات التي يروّج لها خصوم الإسلام ويوضّحوا ما يتبجّح به المرجفون.
فالإيمان بكلّ حرف نطق به القرآن حقّ وواجب وشرف. والتّسليم بما صحّ عن المصطفى -عليه الصلاة والسّلام- واجب واهتداء واقتداء، وكلاهما من صميم الإيمان الذي لا يتمّ إلاّ بإثبات ما جاء به الوحي وتمّ به الدّين حقّا وصدقا. فالإيمان والإسلام والإحسان واليوم الآخر والقضاء والقدر كلّها من جوهر توحيد الألوهيّة وتوحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصّفات. أو كما تقسّمها كتب الدّراسات العقديّة إلى توحيد الرّبوبيّة وتوحيد الألوهيّة وتوحيد الأسماء والصّفات. وكلّ ذلك رحمة من ربّنا -جل جلاله- إذا شاء لمن رحم توفيقا وإحسانا. (انتهى).