من مولد.. إلى ميلاد جديد
قبل نحو 1445 سنة، لم يكن العالم القديم أحسن حالا، كما هي الحال عليه اليوم في عالمنا الجديد: كان العرب أقواما وقبائل وأمصارا قليلة متنازعة متقطعة الأرحام، يغير بعضهم على بعض، ويتحالف بعضهم مع قوى الروم، فيما أخرى تتحالف مع قوى الفرس: الغساسنة والمناذرة.. كان الروم البيزنطيون يهيمنون ويسيطرون على المال والتجارة والسلاح والقوة.. ويسيطرون على المناطق العربية شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام الكبرى، وصولا إلى ما بين النهرين. جنوبا، كانت روما الغرب تهيمن على بحار الجنوب إلى حدود بلاد الحبشة وجنوب القارة الإفريقية والهند، فيما كان الشرق الأقصى والأدنى تحت هيمنة قوة بلاد الساسانيين الفرس. لم يكن للعرب شأن، إلا أنهم كانوا أهل “تجارة الاستيراد” جنوبا وشمالا، حتى إن مكة قبل الإسلام كانت بها مراكز تجارية تابعة لروما.
بالمعنى العام، لم يكن للعرب شأن عالمي ولا قوة تنافسية بين القوى العظمة وقتئذ: روما الشرق والغرب من جهة، والفرس من جهة أخرى، تماما كما هو عليه الشأن اليوم: العرب ما بين الهيمنة الغربية الأوربية الأمريكية والتجاذب الاقتصادي مع الشرق الأقصى.
الشأن الداخلي العربي في شبه الجزيرة، لم يكن أحسن حالا من العلاقات الخارجية: الحروب الأهلية الداخلية التي لا تكاد تنتهي، والتحالفات المريبة مع أعداء العرب، المعاملات التجارية مع قبائل اليهود في المدينة التي متعتهم بقوة ونفوذ داخل المجتمع العربي، كل هذا عزز من التشرذم العربي لصالح القوى المناهضة الباحثة عن مصالح آنية على حساب العرب.
في هذا الوقت بالذات، بعث النبي محمد- عليه الصلاة والسلام- رسولا للعالمين من بين أضلع العرب، حاملا الهداية والدعوة إلى الحق: دين الله الأوحد: الإسلام، عبر رسالة القرآن الكريم، كلام الله وسنة نبيه التطبيقية.
لم تكن قريش لتكفر بمحمد، لولا أنه مس آلهتهم المتعددة بسوء، وأنكر عليهم دينهم وشركهم، وكان بالإمكان أن يسكتوا عليه لو بقي دينه مجرد حالة فردية. غير أن إقبال بسطاء الناس في البداية على الإسلام، لأنهم كانوا يرون فيه خلاصهم الديني والدنيوي، ثم دخول بعض كبراء القوم وسادتهم في الإسلام، عقلا وتدبيرا وتمعنا وإرشادا ربانيا، تحول الدين الجديد إلى ثورة عارمة على كل شيء، في كل المستويات، فكانت الحروب على النبي، كما حورب قبله الأنبياء الأولون من طرف بني إسرائيل.
غير أن هذه الأقلية المنصورة، سرعان ما تحولت إلى قوة يحسب لها ألف حساب، وفي ظرف وجيز: من المدينة المنورة، بعد الهجرة، كانت البداية، وكان فتح مكة هو فاتحة كل خير ومفتاح كل الفتوحات: جنوبا باتجاه مصر وشمالا باتجاه بلاد فارس وبيزنطة، وشرقا باتجاه إفريقيا وشمالها.
وما كاد القرن الأول من الهجرة ينتهي، حتى كان الإسلام ينتشر في كل ربوع القارات المجاورة: من الهند إلى الصين إلى إفريقيا إلى بيزنطة، إلى أوروبا عبر الأندلس في سنة 92 للهجرة.
تشكلت حضارة إسلامية قوية في العهد العباسي وفي الأندلس، لأكثر من سبعة قرون، لم تكن كلها منسجمة مع روح الإسلام والعقيدة، لكن الحضارة العربية الإسلامية، كانت قد هيمنت على العالم بأسره ولقرون.
ولأن النبتة تحمل في جيناتها سبب تطورها كما هو سبب موتها، يحصل أن تتهاوى قلاع الحضارة الإسلامية بدخولها مرحلة الشيخوخة والفتن على الإرث المادي المصلحي بين المكون الداخلي، ليجدها المكون الخارجي لقمة صائغة، سواء مع نهاية العباسيين أم نهاية الأمويين في الأندلس.
خمسة قرون تمر على السقوط التاريخي للحضارة الإسلامية، نبحث اليوم عن ميلاد جديد.