-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من يردّد مواويلك من بعدك يا عمي علي؟

لمباركية نوّار
  • 1571
  • 1
من يردّد مواويلك من بعدك يا عمي علي؟
ح.م

 من أين استوحي الكلمات اللّطاف التي تليق بوداعك للمرة الأخيرة، يا عمي علي الزكي.. فالخطب عاقم قاصم والمصيبة عظيمة من بعد فقدك. وفي الذهن سرحان مشتت لا يطوّق، وعلى اللسان احتباس لا يطاق، وفي القلب غصة عصية على المنازعة والقهر، وفي الأحاسيس آلام قواهر لا تقبل المبارحة أو المهادنة…

فما الحيلة؟.. وأين المخرج، يا عمي علي؟

من أين استجمع مفردات التأبين التي يمكن أن تقال في حق رجل صلب صلابة الصخور الصم الجلاميد، لا يقبل الترويض، ولا يرضى بالدنية والهزيمة، وينفلت من أصفاد الهوان والخسة، ويقاطع أنصاف الحلول، ويكره الرياء والتملق، ويبغض التزلف والنفاق، ولا ينصاع للمجاملات، وينفر من المخادعة والمداورة، ولم يصعر تراقيه لأحد، ولم ينكس راية عزة النفس والإباء والكبرياء منذ أن رفعها عالية وهو طفل غر صغير، وصمم أن يعيش كل أيام عمره شامخا كسروة من سروات الأوراس الباسقات؟؟

من أين لي بالكلمات التي تنفع في الحديث عمن إذا تكلم تحرّى الدقة والإتقان والبرهان، ولم يكن مهذارا ثرثارا يخلط بين الخطأ والصواب، وأسمع هدير صوته المدوي حتى من كان بأذنيه صمم. ومن إذا ضرب أوجع، وإذا جادل أقنع وأفحم، وإذا ثار أزبد وأخاف وأرعب، وإذا أخفض جانبه لمن يبصر فيه الصدق والخير أخذه بالملاطفة والإحسان والحنان؟؟

أي صوت تأبيني يمكن أن يعلو أو يداني صوت عمي علي المجلجل والمزلزل، وينافس نبرته القوية والحادة؟؟ فلا يقرأ سامعه في رناته إلا روح التمرد والثوران والغليان والعصيان؟ ولا يفهم منه سوى فوران دمه وجريان كل أخلاط جسمه.

مهلا، مهلا، يا عمي علي الأنوف الأبي، ولا تستعجلني. فقد أبصرت ممرا إلى الذاكرة المعكرة التي اختلط حابلها بنابلها منذ لحظة سماع نعيك.. إنه ممر ضيق ومحرج كممرات الجبال التي كنت تهوى السير فيها، ولكنه مفض إلى مخزون الذكريات التي صنعتها لقاءاتي المتعددة بك.

إنني أبصر وميضا لامعا من صورة وجهك يدنو ويعود، يقترب ويبتعد، يلوح واضحا ومن بعد ذلك يتلاشى ويختفي. وبسرعة تكفهر تجاعيده، وتتعقد تكشيراته، وتستقطب ملامحه، وتكتسحه موجات غضب سود. إنها صورة حالك لما يقف أمامك متذلل جبان ضعيف الهمة، ومنزوع الإرادة كالمريد المستسلم، ومجبول على الانحناء والركوع، ولا يعرف سوى اللعق والانكسار. وهي نفسها صورتك لما تلحظ متشدقا متكلفا في مدح من لا يستحق الثناء، ومسترسلا غارقا في تبييض صفحته. فمن ينجي هذا “المغبون” المهزوم من قذائفك اللهوبة؟ ومن يخلصه من حممك الحارقة التي ستنزلها على ذؤابة رأسه؟؟

 ها هو موقف ثان من مواقفك، لإنني أسمع صوتك الجهوري المزمجر الذي يشبه زئير الأسود يروح ويجيء، ينقطع لهنيهات ثم ينبعث من جديد. ويتردد بقايا صداه في أذناي هادرا كالرعد، وصاخبا كالإعصار الغاضب الذي يسقط سقوف المساكن ويقتلع الأشجار من جذورها، وهائجا مائجا كأمواج البحر المتقاذفة والمتلاطمة في لحظات اضطرابها وفورتها. إنه صوتك العنيف المتمرد برنات إيقاعاته التي تميزه لما تنتصب مدافعا عن رأي، أو رادا على شبهة، أو معترضا عن فكرة، أو منتقدا وجهة نظر، أو مصوبا خطأ.

تواردت في صفحة ذهني، في هذه اللحظة، صورة أخرى لطيفة لمحياك المبتسم، وأنت قلما تبتسم، وتفرج بين شفتيك في سرور وارتياح، وفي عينيك علامات غبطة وانشراح، وأمارات رضى وموافقة، ودلالات صفاء ذهني ونقاء مزاج. إنها صورتك المتفائلة لما تنجر للغوص في استرجاع قصص شهداء ومجاهدي ثورة نوفمبر، وما صنعوه من بطولات.

كنت آتيك في زيارتين، أو قل في رحلتين، رحلة في الشتاء ورحلة في مطلع الصيف. تقودني الأولى إلى منزلك في بلدة تازولت التاريخية والعريقة التي ما تزال تنام على آثار المحتلين الرومان، وتجتذبني الثانية إلى أعز مكان إلى قلبك، كما كنت تقول لي دائما، وهو ضيعتك الريفية الهادئة في مريال التي بنيت فيها مستراحا هادئا تلوذ إليه كلما غشيك حزن، أو أحاط بك كرب، أو وقعت أسير قلق عابر، أو كبلك هم مضن.

كنت أحس، دوما، أن الساعات التي كنت تقضيها في ضيعتك، وخاصة في وقت إثمار أشجار التفاح والتين والكمثرى والعنب، هي أحلى وأريح الساعات في عمرك وأسعدها على الإطلاق؛ لأنك تنقطع فيها عن الناس، وتبتعد عن صخب وبؤس المدن، وتخلو فيها إلى نفسك تحادثها وتحادثك، وتكاشفها وتكاشفك، وتشعر معها بالسكون والاطمئنان.

كنت آتيك في الموعد المحدد، وكنت أتحسس عشقك الطاغي للاستراحة في الطبيعة الخلابة مستمتعا برؤية خيرات الأرض. وكنت أراك تفضل تفيأ ظل شجرة التين المعمرة والمكوث تحت أغصانها وحيدا، منفردا، تسترجع صفحات الماضي، فتبتسم أحيانا، ويتجهم وجهك، أحيانا أخرى. ولم تكن أحاديثنا تخرج عن نطاق الثورة التحريرية في الغالب. وكنت قبل أي سرد تبادرني بالسؤال عن شهيد أو مجاهد أو مناضل أو واقعة أو معركة؟ ومن ثم تغرق في القص والحكي. وكنت أتجنب مقاطعتك حتى لا أتسبب في بتر حبل ذكرياتك ومروياتك.

مازلت أذكر يوم توديع أحد إخوانك المجاهدين الشجعان الذي عاش معك سنوات في معتقل قصر الطير، فما كاد المؤبن أن ينهي كلمته الشحيحة، حتى انطلقت بعفوية تتحدث بحرارة وانفعال عن خصال الراحل مازجا بين الفصحى والعامية ومخلطا بهما اللهجة الشاوية وبعض الكلمات الفرنسية. وكأنك تعاتب من تكلم قبلك عن سرده الشاحب المنوّم الذي هضم فيه حق الرجل، وألحق به ظلما شنيعا.

ولد عمي علي بيبيمون في عائلة ثورية شقت عصا الطاعة عن فرنسا، وناصبتها العداوة، وواجهتها بالتمرد والبغضاء. وشاءت يد القدر أن يلقى عليه القبض وهو شاب يافع، طري العود، بعد أن أصيب في معركة مشهودة، وكسرت رجله اليمنى. وبعد علاجه والزج به منفردا في عنبر سجن لمدة تسعة أشهر، نقل مع مجموعة من الأسرى إلى معتقل قصر الطير الجهنمي. وفي جلسات الاستنطاق التي لا تطاق سئل عن اسمه، فأجاب: اسمي علي صحراوي، وأغفل اسمه الحقيقي: علي بيبيمون حتى يبعد جرم الانتقام عن عائلته ويخلصها من تبعاته. وأضاف ممعنا في التدليس والمغالطة بأنه من دوار “قديلة”، واستلهم فكرة هذا الإيهام المكاني لتضليل سائله من مرابع والدته “فاطمة الزيانية”، سيدة نساء جيلها، التي ولدت هناك. وعاش متخفيا خلف هذا الاسم المستعار بين إخوانه في المعتقل كل سنوات إقامته به. ولاقى في أتانين هذا المعتقل الذي هانت فيه حياة الآدميين كل صنوف العذاب الجسمي والنفسي. وروى لي مرة، كيف أنه عاش بسروال واحد لم يغيره أبدا ويتزاحم فيه سبعون رقعا ملتحما ومتراكبا وبألوان مختلفة؟

لو شق الصبر من أعتى الصخور وأصلبها وأقواها مقاومة لأنهار أمام صنوف وأساليب العذاب الذي كان الجلادون الفرنسيس وبعض عملائهم يفتنون فيه. ولا يتوقفون عن ابتكار عذابات أخرى أشد ضراوة وقساوة على النفس والجسم في كل مرة تحت إمرة وتوجيه النقيب “أرشونو” صاحب الوجه الكالح وكلبه المدرب “موموس” ذي الشعر شديد السواد والذيل المبتور والأنياب القوية التي لا يتوقف عن غرزها في عضلات المعتقلين أمام مرأى من يدعون أنهم جاؤوا إلى الجزائر حاملين رسالة إنسانية لتمدين سكانها. وقد أعمى الحقد قلب النقيب “أرشونو” الأرعن والسفيه إلى حد أنه ابتدع نظاما جهولا لا نظير له، ويتمثل في إرغام كل معتقل يطلب إذنا لقضاء حاجته أن يستصدر ترخيصا من الكلب “موموس” الذي يزن قرابة ثمانين كيلو غراما. وهو وحده المخول له قبول الطلب أو رفضه، ولا يتجاوز عمل مدربه سوى ترجمة رده المعبر عنه بحركة رأسه قبولا أو رفضا، إيذانا أو منعا.

دعاني، عمي علي، ذات مساء في شهر جويلية من سنة 2011م، وسلمني عدة أوراق صيغت تحت عنوان: “صفحات تاريخية عن معتقل قصر الطير”، وطلب مني مراجعتها وإعادة تنظيمها في أقرب وقت. وطلبات عمي علي، رحمه الله، هي أوامر لا يمكن ردها. ولما نظرت فيها وجدتها لا تستقيم إلا إذا أعيد بناؤها من جديد. وعاودت صياغتها من ألفها إلى يائها في زمن قياسي. وبعد أن تسلمها مني، راجعني بعد يومين منكرا عليّ الأسلوب الذي كتبتها به، ومعاتبا في رفق، وقائلا: من يفك طلاسم وعقد ما كتبت لي؟؟ ابتسمت ابتسامة صادقة وخالية من أي انزعاج، ورددت عليه بالقول: لا يكتب تاريخ الكبار إلا بهذا الأسلوب، أو لا يكتب؟ فحرك رأسه، وسكت.

ستظل ذكرى المجاهد عمي علي بيبيمون، رحمه الله، ماثلة في قلوب كل من تعرفوا إليه معرفة جوانية، وسبروا أغوار سريرته، واكتشفوا طهر مزاياه وخفاياه وبياض قلبه وغيرته على وطنه وكل المقومات التي صنعت هًويته. وإذ يأسى عارفوه فلا يأسون إلا لأنهم فقدوا رجلا تركزت كل مقوّمات الرجولة في شخصه… وداعا، عمي علي، ومأواك الجنة، بإذن الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Bibimoune Aïcha

    بارك الله فيكم على هاته الكلمات القيمة
    رحم الله والدي الصنديد و اسكنه فسيح جنانه
    رحم الله رجلا لخصت فيه جميع معاني الرجولة