مُغنّون ومدمنون “يتوبون” ثم يفْجـرون

انتشرت مؤخرا، ظاهرة توبة بعض مُغنّي الملاهي ومُدمني المُخدّرات، وسط ترحيب المجتمع بعودتهم إلى الطريق الصحيح، فتُنظم لهم مبادرات تضامنية لجمع أموال تُعينهم على إكمال حياتهم في “الحلال”.. والإشكال، أن كثيرا ممن أعلنوا توبتهم مؤخرا، عادوا إلى سابق عهدهم وباتوا أكثر فجورا.. فهل يكمن الخلل في عدم تقبل البعض حالة هؤلاء الجديدة، ما يجعلهم يعودون إلى سابق فجورهم؟ أم كان يلزمهم علاج نفسي وخطة للتأقلم مع شخصياتهم الجديدة؟..
أسئلة كثيرة تطرحها ظاهرة “توبة” بعض الأشخاص المنتشرة مؤخرا، بحيث يطل علينا كل مرة مُغني ملاهِ أو مدمن مُخدرات أو شخص كان يروج لأفعال غير أخلاقية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليعلن توقفه عن أنشطته السابقة واختياره طريقا تُرضي الله والعباد.
والظاهرة مبشرة في عصر طغت عليه المغريات المادية وانتشر فيه الانحلال الأخلاقي، بل إن التوبة المتجدّدة والرجوع إلى الله تعالى، عن طريق ترك المعصية والذنوب كبيرة كانت أو صغيرة، والندم على فعلها والعزم على عدم العودة إليها هي واجبة على كل مسلم.
ومن الأمثلة الطيبة في هذا السياق، مغنون مشهورون سنوات التسعينيات أعلنوا توبتهم في صمت وتمسّكوا بها إلى اليوم.. منهم الشاب جلول، الذي كان يمتهن غناء الرّاي، ثم أعلن توبته فجأة وتوقف كليا عن الغناء متوجها نحو الإنشاد والدعوة إلى الدين، فأصبح من رواد المساجد التي لم يفارقها إلى الآن..
أقسم على القرآن.. ثمّ عاد أسوأ
لكن التّوبة التي بات يعلنها بعض المغنين ومشاهير “السوشل ميديا” من الجيل الحالي، ويروجون لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطرح أكثر من سؤال، لأن توبتهم كانت مؤقتة بل وعادوا أسوأ ممّا كانوا عليه، منهم مغني راي من الغرب الجزائري، معروف بغنائه في الملاهي، أعلن منذ سنتين توقفه عن الغناء، بل تجرّأ وأقسم على كتاب الله، القرآن الكريم، على أنه لن يعود إلى الغناء مُجددا، لنتفاجأ به بعد بضعة أشهر يعود إلى سابق عهده، مُتجاهلا تماما الهجوم الكبير الذي شنه عليه رواد التواصل الاجتماعي، بسبب قسمه على كتاب الله، بل ودخل السّجن لاحقا في قضية أخلاقية.
ومغنية ملاه أخرى، ادعت توقفها عن الغناء وأصبحت تنشر صورها بالحجاب على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد وقت قصير عادت إلى طبيعتها السابقة ونزعت الحجاب، وبرّرت ذلك بأنها في حاجة إلى المال، بل أصبحت تلوم وتهدد كل من يستنكر توبتها القصيرة.
ومؤخرا، أعلن شباب مشهورون كانوا يروجون للمثلية الجنسية والرقص والتشبه بالنساء على مواقع التواصل الاجتماعي، توقفهم عن هذه الأفعال وعودتهم إلى رشدهم، فغيروا من مظهرهم وأصبحوا يتردّدون على المساجد.. وفرح رواد الإنترنت بقرارهم، بل ودعموهم نفسيا وماديا، لنُصدم لاحقا بعودتهم جميعا إلى أفعالهم السابقة.
مدمن مخدرات يدّعي التوبة للنصب وجمع المال
أما أغرب قصة، فبطلها شاب في الثلاثين من عمره، كان يظهر عبر فيديوهات لا محتوى لها بالتواصل الاجتماعي، بعدها أعلن أنه مدمن مخدرات وينوى الإقلاع عنها والتوبة، فهبّ إليه أشخاص كُثر لمساعدته.. وادعى لاحقا أنه توقف فعليا عن تعاطي المخدرات وغيّر من شكله وأسلوبه في الكلام، إلى درجة أنّه بات ضيف شرف بحلقات دينية تقام ببعض المساجد، ليحكي عن تجربته في الانتقال من شخص مدمن على المخدرات إلى شاب صالح في المجتمع.
ولكن توبة هذا الشاب، لم تستمرّ إلا أشهرا قليلة جدا، حتى سمعنا أنه “حْرَق” إلى فرنسا بأموال المُحسنين التي تبرّعوا له بها، وشرع في نشر فيديوهات له على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر تعاطيه المخدرات وعودته إلى سلوكاته المنحرفة، وحمّل بدوره مسؤولية وضعيته الجديدة للمجتمع.. !
ويشار إلى أن هذا الشاب، عندما أعلن توبته عن المخدرات، تفاعل مع قصته أطباء نفسانيون، مؤكدين أن الإدمان في حاجة إلى علاج نفسي وطبي متواصل للتخلص منه نهائيا، ويستحيل أن يقلع المدمن عن التعاطي في ظرف أسبوع فقط.
هذه الظاهرة، قلبت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، بحيث استغرب روادها تحميل هذه الفئات المتراجعة عن توبتها المسؤولية للمجتمع، “وكأنهم داروا فينا مزية كي تابوا”، بحسب تعليق أحدهم. وآخرون يؤكدون أن مشاهير الرقمية باتوا يُقدمون على أي سلوك بهدف إثارة الجدل ورفع عدد متابعيهم، حتى باستغلال الدين والمساجد، بينما ترى فئة أخرى، بأن علينا الفرح بتوبة أي شخص، حتى ولو عاد عنها لأكثر مرة، بل لابد من تشجيعه وتحفيزه مجددا.
وجب التمييز بين التوبة الحقيقية واللحظية والمزيفة
وفي الموضوع، أكّد المختص في الأمراض العصبية والبسيكوجسمانية، كمال بن روان، أنه وجب التمييز بين التوبة النصوح الحقيقية والتوبة المزيفة، فالحقيقية بحسبه تأتي بعد ندم شديد وعزم وإرادة على عدم العودة إلى هذا الأمر، ويكون التائب أو المقلع عن الإدمان بعيدا عن أعين الناس غالبا.
وأكّد بن روان لـ”الشروق”، وجود فئة من الأشخاص تدخل في ما يسمى “توبة لحظية”، تأتي إثر حدوث صدمة لذلك الشخص، سواء بوفاة إنسان قريب أم بحدوث مشكلة عويصة أو أمر مفاجئ، “فيقومون بردّ فعل هو عبارة عن توبتهم من سلوكات أو معاص كانوا يرتكبونها ويظهرون بمظهر التائب، لكنهم سرعان ما يعودون إلى سابق عهدهم، إثر تلاشي فترة الحزن أو الصّدمة، فهذه التوبة هي ردّ فعل بسبب معاناة الشخص في أثنائها من هشاشة نفسية.. وأيضا، بعض المشهورين عبر السّوشل ميديا، عندما يقررون التوبة، سرعان ما يعودون إلى حالتهم السابقة، عندما يشعرون بزوال أضواء الشهرة عنهم”.
وبخصوص موضوع المدمنين على المخدرات، الذين باتوا يصرحون عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأنهم تابوا وأقلعوا عن الإدمان في ظرف أيام فقط، يوضح بشأنهم الدكتور، أن الإدمان له علاقة سببية، “فإمّا يدمن الشخص على المخدرات، نتيجة هشاشة نفسية سابقة أو اضطرابات عميقة، وإما يكون الإدمان بسبب اضطرابات في شخصية الإنسان”، على حد قوله.
وعليه، يؤكّد بن روان، أن الإقلاع عن الإدمان في حدّ ذاته ليس بتلك البساطة التي نراها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث يطلّ مشهور على متابعيه ويدّعي إقلاعه عن الإدمان في ظرف أيام، غير أن الأمر ليس كذلك، بل يحتاج إلى مراكز علاج الإدمان، ومصحات نفسية، وتدخل أطباء مختصين في الإدمان وتعديل السلوك، “فإدمان أمر بسيط يحتاج منا جهدا للإقلاع عنه، فما بالك بإدمان المخدرات”.
وذكر بن روان أنه يستقبل المُدمنين على المخدرات العازمين على الإقلاع عن تعاطي المخدرات، ويستعمل معهم ميكانيزمات مختلفة وبمشاركة متخصصين، “ونستعين بعائلاتهم، ومع ذلك، تتخلل فترات علاجهم الطويلة انتكاسات”.
يدّعون التوبة لغرض جمع المال
أما النوع الثالث من التوبة، بحسب المختص في الأمراض العصبية، فهو عبارة عن نصب واحتيال باسم الدين، بحيث تستغلّ بعض الفئات التي تعاني من شخصيات مرضية سيكوباتية، طيبة الجزائريين وحُبّهم لدينهم، وتدعي إقلاعها عن المعاصي وتوجّهها نحو السلوك الصّالح، ونيتهم المُبطنة هي جمع الأموال وزيادة المتابعين أو البحث عن الظهور الإعلامي وركوب الـ “ترند”.
ودعا محدثنا إلى مراقبة السلطات مثل هذه الفئات، التي تدخل في فئة النصابين، لأن بعضهم جمع الملايير بعدما استعطف الجزائريين بتوبته المزيفة، التي سرعان ما عاد عنها.
ويؤكد بن روان أن “التوبة الحقيقية هي التي تتضمن تغيير السلوك إلى الأحسن النابع من إرادة وعزيمة الشخص وتكون في الخفاء وحتى هذه قد تتخللها انتكاسات، أما التوبة الظرفية، التي تأتي كردّ فعل لصدمة نفسية فصاحبها يحتاج تدخلا نفسيا ومساعدة، بينما الباحثون فعليا عن الإقلاع، عليهم التوجه نحو مصحات علاج الإدمان، ونسبة شفائهم 100 في المائة، إذا تقيدوا بخطة الشفاء مع امتلاكهم الإرادة”.
أما التائبون المزيفون من مشاهير السوشل ميديا، الذين ينصبون على المواطنين باسم الدين أو المرض أو الفقر، فهؤلاء وجب ردعهم من السلطات القانونية، بحسب المختص، “لأنهم استغلاليون، وحتى عندما يكشف أمرهم، يعاودون مكرهم بعدما يسقطون بعض الدموع، ليتفاعل معهم كثير من المواطنين ويساعدوهم مجددا”.