مِن لطف الله أنّه ستر عنّا الغيب
اختار الخضر ثلاث لقطات متفرّقة: خرْق سفينة في البحر، وقتْل غلام في البرّ، وإقامة جدار في قرية بخيلة. لكنه قبل أو يوقّع مع موسى -عليه السّلام- العقد المعنوي بشروطه المتّفق عليها، أعلمه أنّ ما ستراه عيناه لا يصبر عليه دينُه ولا يملك قدرة على لجْم فيه أمام جريانه تحت سمعه وبصره. فظاهره سيكون مستفزًّا لما في قلبه من إيمان ولما في رصيده الدَّعوي من فقه المعروف والمنكر، والحسْن والقبح، والخير والشرّ، والحقّ والباطل، والعدل والقوّة.. فلهذه المفردات -في شريعة التّوراة-ـ ظاهر وباطن: ظاهر محكوم بظرفيّة الزّمان والمكان وأحكام الشّريعة القائمة على الفّعل والتّرك والأمر والنّهي وفْق العقيدة المعلنة والحكم الذي بعث الله به النّبيّين والمرسلين. أما باطن الفعل فعلمه عند علاّم الغيوب.
من أعظم أنعام الله علينا ستْر أفعالنا بالغيب، فلو كشف الله عنها الغطاء ما صافى أحد أخاه وما أقام جارٌ جنْب جار، وما صافح أحدٌ أحدا.. وهو ما عبّر عنه عبد الله بن محمّد القحطاني في نونيّته الشّهيرة بقوله:
والله لو علمـــوا قبيـــح سريرتي * لأبَى السّــــلام عليّ مــــن يلقاني
ولأعرضوا عنّي وملّوا صحبتي * ولبُــــؤتُ بعــد كرامـة بهـــــوان
لكـــــنْ ستــرت معايبي ومثالبي * وحلمتَ عنْ سقْطي وعن طغياني.
هذه وحدها تكفي البشريّة جمعاء نعمة يتراحمون بها، بما ستر الله عيوب بعضهم عن بعض. فلو أنّ الله -جل جلاله- كشف المستور وراء حجُب الغيب لاضطربت العلاقات بين الناس؛ فلا يتجاور اثنان ولا يلتقي زوجان ولا تستمرّ مودّة بين متراحميْن.. ولن تجد من يقبل أن يكون حكَما في نزاع.. ناهيك عن أن يستلم مقاليد حكْم دولة وإدارة شؤون شعب وتحمّل مسؤوليّة أمّة. لو كشف الله غطاء ستره لن تجد جنديّا واحدا مستعدّا لخوْض معركة يعرف نهايتها. ولن يسافر أحدٌ لطلب علم أو تحصيل رزق يعرف سلفا نتائجَ شدّ رحاله إليهما، ولن يرتبط أحدٌ بنكاح كشف له الغيب أستاره فعرف أسراره.. وهكذا.
تأمّل كيف يُعاد ترتيب أمور كثيرة بمجرّد إعلان الأرصاد الجويّة عن تقلّب حالة الطّقس؛ فتتعطّل الملاحة البحرية والجويّة وتتقلّص حركة السّير وتكسد الأسواق.. أما إذا أذيعت أخبار وباء فتّاك فحدّث عن انكماش حياة النّاس ولا حرج، كما يحدث هذه الأيّام بسبب جائحة كورونا المسمّاة “كوفيد 19” التي عطّلت حركة الحياة وغيّرت عادات النّاس في الأكل والشّرب والاجتماع والتّعامل، وذكّرت البشريّة بما كان يدعو إليه الإسلام من طهارة وتباعد وعدم مصافحة والاكتفاء بإفشاء السّلام، وبما حرّمه على الإنسان من خمور وفجور ومسكرات، وسائر ما يضعف المناعة وينقل العدوى بين الخُلطاء ناهيك عما يجري في الأماكن المظلمة وفي ليالي الماجنين.
تصوّر عالما مكشوفا يعرف فيه كلّ امرئ بدايته ونهايته، عالما محكومًا بشهود الغيب، عالما يتحدّث فيه أهل الكشْف عن غدٍ وما بعد غذ، وتصوّر أيضا أنّ الله -جل جلاله- يكشف غطاء ستْره فيرى النّاس الكون شفّافا عاريّا ويحيطون بكلّ شيء خُبْرا؛ فيعلم الوالدان بما ستكون عليه ذرّيتهما من صلاح أو فساد أو استقامة أو اعوجاج أو برّ وعقوق وطهارة وفجور.. كيف يتصرّفان تجاه من سيرهقهم طغيانا وكفرا؟ وكيف تتصرّف البشريّة تجاه عالم مكشوف حاضره ومستقبله؟ وكيف سيكون مصير الأرحام والعلاقات الزّوجيّة والأمومة والطفولة والنّكاح والعشْرة الزّوجية والعلاقة بين الجيران ونظرة المجتمع إلى المواليد الجُدد والتّركات والمواريث والحروب والثّروات والحكْم والملك… باختصار: سيتغيّر وجه العالم كلّه رأسًا على عقب؛ فلا حاجة لحاكم بأجهزة أمنيّة وتقارير وقضاء وشهود، مادام كلّ شأن الرّعيّة مكشوفا له.
لو كُشف الغطاء للنّاس، كما كان مكشوفا للخضر -عليه السّلام- لتغيّر وجه الحياة كلّها بحياة أخرى لا صلة لها بالزّمان، وتغيّرت قواعد اللّغة وأساليب الخطاب والمعاملة.. ستتحوّل البيوت نفسها إلى أجهزة تخابر يتنصّت فيها الآباء على الأبناء والأبناء على البنات والأزواج وذوي الأرحام والجيران، وتفقد الحياة ستْرها وسرّها وجمالها، ويومئذ يدرك النّاس جميعا أنّ صفة “الستّير” التي سمّى الله بها نفسه، هي صفة رحمة للعالمين؛ فلا تحتاج البشريّة -أمام ستْر الله- إلى أمثال الخضر -رضي الله عنه- ليكشف لها عن غيب ستَره الله ولم يشأ أن يحيط أحدٌ به خُبْرًا.