نحو إصلاح تشريعي لعطلة الأمومة في الجزائر

تمثّل عطلة الأمومة أحد أرقى أشكال الحماية الاجتماعية التي تُمنح للمرأة العاملة، وهي ليست منحة ظرفية أو امتيازًا ثانويًّا، بل حقٌّ أصيل متصل بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، كما تنص على ذلك المواثيق الدولية والتشريعات المقارنة.
بات من المؤكد اليوم أن حماية الأمومة ليست فقط مسألة صحية، بل رهان تنموي وسياسي ومجتمعي شامل، يعكس مدى التزام الدولة بتعزيز موقع المرأة داخل سوق العمل وضمان استمرارها من دون تمييز أو هشاشة؛ إن إقرار عطلة أمومة كافية وعادلة هو أيضًا مؤشرٌ نوعي على مدى نضج السياسات العمومية، ومدى احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية داخل النسيج التشريعي.
وفي هذا السياق، شكّلت مبادرة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون بتمديد مدة عطلة الأمومة خطوة نوعية في مسار ترسيخ دولة الرعاية الاجتماعية، وتحديث مقاربات الحماية والعدالة، لاسيما لفئة الأمهات العاملات.
أولًا: مضمون مشروع القانون المعدل
جاء مشروع تعديل القانون رقم 11-83 المؤرخ في 2 يوليو 1983، ليُترجم التوجيهات الرئاسية إلى نصوص قانونية ملزِمة، ويؤسس لرؤية جديدة في مجال الحماية الاجتماعية للمرأة العاملة، من خلال:
- رفع مدة عطلة الأمومة من 98 إلى 150 يوم، وهو ما يمنح الأم فترة أطول للتعافي والعناية بالمولود.
- إمكانية التمديد إلى 165 يوم في حالات خاصة (مثل إنجاب مولود مصاب بإعاقة أو مرض خطير أو تشوّه خَلقي).
- ضمان تعويض يومي بنسبة 100% من الأجر طيلة فترة العطلة، بما يعزِّز الاستقرار المالي للأمّ ويشجِّعها على التوفيق بين مسؤولياتها المهنية والعائلية.
- تبسيط الإجراءات الإدارية من خلال اشتراط ملف طبي وشهادات محددة وفق نموذج معتمد من هيئة الضمان الاجتماعي، مما يساهم في تقليص العراقيل البيروقراطية.
- منع الجمع بين تعويضات الأمومة وتعويضات المرض حمايةً لمالية صندوق الضمان الاجتماعي، وضمانًا لشفافية المنظومة التعويضية.
ولعلّ أهم ما يميز هذا المشروع هو تجاوزه لمعايير منظمة العمل الدولية رقم 183، التي تحدد الحد الأدنى لعطلة الأمومة بـ14 أسبوعًا، في حين بلغ مجموع العطلة في النص الجزائري 21 أسبوعًا (مع إمكانية التمديد)، مما يضع الجزائر في مصافّ الدول المتقدمة تشريعيًّا في هذا المجال.
ثانيًا: الأثر الاجتماعي والاقتصادي للمشروع
تتعدى آثار مشروع القانون الجوانب الصحية، لتشمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية أوسع:
- تعزيز استقرار الأسرة من خلال دعم المرأة أثناء مرحلة الأمومة، مما يقلّل من نسب التسرب المهني والانقطاعات غير المخططة عن العمل.
- تحسين مناخ العمل عبر تكريس ثقافة مؤسساتية داعمة للأمهات، ما يساهم في رفع الإنتاجية وتحقيق التوازن المهني.
- التقليل من التفاوت بين الجنسين، إذ تساهم عطلة أمومة مدفوعة وطويلة في الحد من التمييز المهني ضد النساء في سن الإنجاب.
- دعم النمو الديمغرافي المحسوب، من خلال منح الأسرة الجزائرية ثقة أكبر في المستقبل، مما قد يؤثر على القرار الإنجابي بطريقة إيجابية.
ثالثًا: أساسٌ حمائي واضح
يندرج مشروع تعديل عطلة الأمومة ضمن روح الدستور الجزائري والتزاماته الاجتماعية، لاسيما المادة 71 التي تنص صراحة على أن “الأسرة تحظى بحماية الدولة”، وهو ما يُعدّ تأصيلاً دستوريًّا لواجب الدولة في تأمين الاستقرار الأسري، وضمان الرعاية الاجتماعية للفئات الضعيفة، وفي مقدمتها النساء والأمهات.
كما يمكن استنباط حماية المرأة الأم من المادة 40 من الدستور، التي تقرُّ بوجوب حماية المرأة من كل أشكال العنف، “في كل الأماكن والظروف”، وهي صيغة موسَّعة تشمل الحماية من الظروف المهنية أو الصحية المُرهقة خلال فترة الحمل أو ما بعد الولادة، بما في ذلك أي ضغوط إدارية أو اقتصادية قد تمسّ بكرامة المرأة أو صحتها الجسدية والنفسية.
لعلّ أهم ما يميز هذا المشروع هو تجاوزه لمعايير منظمة العمل الدولية رقم 183، التي تحدد الحد الأدنى لعطلة الأمومة بـ14 أسبوعًا، في حين بلغ مجموع العطلة في النص الجزائري 21 أسبوعًا (مع إمكانية التمديد)، مما يضع الجزائر في مصافّ الدول المتقدمة تشريعيًّا في هذا المجال.
إن هذا الإسناد الدستوري لا يضفي الشرعية فقط على تعديل القانون، بل يمنحه قوة حماية تأسيسية تُمكِّن من توسيع نطاقه وتأويله لصالح الفئات الاجتماعية المعنية، وبخاصة النساء في وضعيات هشاشة.
رابعًا: محاور تطويرية
رغم المزايا النوعية لمشروع القانون، إلا أن الطموح نحو عدالة اجتماعية شاملة يدعو إلى اقتراح جملة من التطويرات المستقبلية، تتمثل في:
- توسيع قاعدة المستفيدين، من خلال:
- إدراج النساء غير المؤمَّن عليهن والعاملات في القطاع غير المهيكل ضمن فئة المستفيدات من خلال صندوق وطني للتضامن الأسري.
- تضمين حالات الكفالة (خاصة للأطفال دون السنة) ضمن حالات الاستفادة من عطلة أمومة مماثلة.
- دراسة إمكانية إقرار عطلة أبوّة ظرفية في الحالات العائلية الطارئة، تعزيزًا للمسؤولية الأسرية المشتركة.
- تعزيز الضمانات الإجرائية، وذلك عن طريق:
- تحديد أجل أقصى للرد على ملفات التمديد (10 أيام عمل).
- إنشاء لجنة طبية مشتركة من وزارتي العمل والصحة لتقييم الحالات الطبية الخاصة.
- رقمنة إجراءات التصريح والمتابعة، مع مراعاة الفجوة الرقمية في بعض المناطق.
- ضمان حق الطعن الإداري في حال رفض الطلب، تكريسًا لمبدأ المشروعية.
- تدقيق الصياغة القانونية وضمان الحماية المهنية، على غرار :
- ضرورة تحديد دقيق لمفاهيم “المرض الخطير”، و”الإعاقة”، و”التشوُّه الخَلقي” ضمن قائمة معيارية صادرة بقرار وزاري مشترك.
- تحصين المرأة المستفيدة من التمديد ضد أي إجراء تأديبي أو تمييز، وضمان احتساب الفترة في الأقدمية ومسار الترقية.
خامسًا: مقارنة مرجعية مع تجارب دولية
في سياق تقييم مشروع القانون الجزائري، يبرز البعد المقارن كأداة تحليلية مفيدة، خصوصًا عند مقارنته مع تجارب دولية رائدة:
فرنسا: تمنح المرأة عطلة أمومة قانونية مدتها 112 يوم (16 أسبوعًا)، منها 6 أسابيع قبل الولادة و10 بعدها، مع إمكانية التمديد إلى 26 أسبوعًا في حالات الولادة المتكررة أو التوائم. ويُصرَف التعويض بنسبة 100% من الأجر الأساسي، لكن في حدود سقف قانوني محدَّد لا يشمل كل الامتيازات.
كندا: تعتمد نظامًا مزدوجًا؛ إذ تستفيد المرأة من عطلة أمومة لمدة 15 أسبوعًا بتعويض يعادل 55% من أجرها، تُصرف من نظام التأمين على العمل. ويمكن للأبوين بعد ذلك تقاسمُ عطلة والدية إضافية تصل إلى 61 أسبوعًا حسب اختيارهم.
السويد: تعدُّ من بين أكثر الدول سخاءً في هذا المجال، إذ تمنح 480 يوم من عطلة الوالدين تُقسَّم بين الأم والأب، وتُعوَّض بنسبة 80% من الراتب لأول 390 يوم، على أن تُصرف الأيام المتبقية بمبلغ ثابت. ويُخصَّص جزءٌ من هذه العطلة إجباريًّا لكل من الوالدين لتشجيع المشاركة.
وبناءً عليه، فإن مشروع القانون الجزائري المعدَّل يُعدّ متقدمًا على العديد من التجارب في نواحٍ عدة، لاسيما من ناحية نسبة التعويض الكاملة (100%)، وطول المدة (150 إلى 165 يوم)، مما يكرّس تحولًا حقيقيًّا في منطق الحماية الاجتماعية في الجزائر.
نحو تكريس دولة الرعاية
إن مشروع تعديل أحكام عطلة الأمومة لا يعكس فقط وفاءً بالتزامات سياسية أو تعاقدات دولية، بل يؤسس لتحوُّل نوعي في منطق التشريع الاجتماعي، يُمكّن المرأة، ويحصّن الأسرة، ويعزّز التضامن الوطني.
وهو خطوة في الاتجاه الصحيح، شريطة أن يُستتبع بمواكبة إدارية دقيقة وتوسيع تدريجي للحقوق نحو فئات أوسع، وبذلك يصبح التشريع أداة فاعلة لحماية رأس المال البشري وتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية في الجزائر الجديدة.
إن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في سن النصوص، بل في تفعيلها على أرض الواقع، ومواكبتها بالتقييم المستمر، لتظل الأمومة محمية، والأسرة مستقرة، والمواطنة الاجتماعية قائمة على التمكين لا الحماية فقط.
وفي هذا الإطار، يمكن اقتراح التوصيات التالية:
- توسيع نطاق الحماية القانونية ليشمل النساء غير المؤمَّن عليهن، عبر آليات دعم تكافلي ممولة من الدولة أو الجماعات المحلية.
- إصدار نص تنظيمي يحدّد بدقة المفاهيم الطبية التي يستند إليها التمديد (الإعاقة، المرض الخطير، التشوه الخلقي)، منعًا للتأويل المتباين.
- تعميم الرقمنة على كافة مراحل التصريح والمتابعة والتعويض مع ضمان الدعم التقني للمناطق النائية.
- إدراج إمكانية عطلة أبوّة ظرفية في حالات مرض الأم، بما يعزز مبدأ المسؤولية الأسرية المشتركة.
- تفعيل آلية التقييم الدوري لنص القانون بعد تطبيقه، لقياس الأثر الفعلي على الأسرة وسوق العمل، وتصحيح النقائص إن وُجدت.
- إطلاق حملات تحسيسية بالتعاون مع صناديق الضمان الاجتماعي لشرح حقوق المرأة العاملة في عطلة الأمومة، وضمان ولوج فعلي إلى هذا الحق.
كما يُسجَّل بإيجابية القرارُ السياسي لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بإطلاق هذا الإصلاح، بما يعكس اهتمامًا ملموسًا بترقية الحقوق الاجتماعية للمرأة والأسرة، ويعطي دفعًا لمسار الحماية الاجتماعية في الجزائر.