نشهد أسوأ كارثة إنسانية في التاريخ

فقد ابنه “براء” العضو في الإسعاف والطوارئ بغزة، خلال حرب الإبادة قبل أيام فقط، حاله كحال عشرات الغزاويين الذين فقدوا فلذات أكبادهم، لكنهم مصممون على المواصلة في العمل الإنساني لإنقاذ الأرواح التي تحاول آلة القتل والبطش الصهيونية الفتك بها.
إنه مسؤول الإسعاف والطوارئ في الخدمات الطبية بغزة فارس عوض عفانة، الذي يؤكد في هذا الحوار مع “الشروق”، أن ما صعب مأموريات فرق الدفاع المدني والإسعاف والهلال الأحمر، تعمُد الاحتلال قصفهم ومنع دخول مركبات الإسعاف وقطع الغيار ليجد المصابون أنفسهم يموتون دون أن يتلقوا العلاج.
كيف تصوّر لنا الوضع العام في غزة بعد 20 شهرا من حرب الإبادة؟
بعد مرور عشرين شهرًا على حرب الإبادة الجماعية، أعجز عن إيجاد كلمات تصف ما حدث خلال هذه الفترة، فلا توجد في القواميس كلمة تليق بحجم هذا العدوان وهذه الإبادة الجماعية، بوحشيتها وظلمها وسياسة التطهير العرقي الممنهجة ضد شعبنا، ولا أستطيع أن أصف ما حدث وما يحدث حتى هذه اللحظة. فالوضع صعب جدًا، كارثي ومأساوي على جميع الصعد، سواء الصحية أو البيئية أو الاجتماعية، فالحياة أصبحت في غاية الصعوبة، وأجد نفسي عاجزًا عن وصف ما حدث خلال العشرين شهرًا الماضية من تطهير وإبادة جماعية طالت قطاع غزة.
ليست أول حرب يشهدها القطاع، فيما تختلف هذه الحرب عن سابقاتها؟
هناك دول عظمى، لو تعرضت لما تعرض له قطاع غزة، لانهارت بشكل كامل، خاصة في أنظمتها الصحية والإسعافية. لقد مرت عشرة أشهر على استمرار العدوان والإبادة الجماعية التي دمّرت أكثر من 80% من قدرات وإمكانيات الإسعاف والطوارئ، واستشهد واعتُقل العديد من كوادرنا، مما جعل الوضع كارثيًا بكل المقاييس. حجم الجريمة يفوق قدرات المركبات والإمكانات المتاحة، حيث أصبح من الصعب جدًا تلبية احتياجات أبناء شعبنا الفلسطيني في ظل هذا العجز الكبير الذي سبّبه الاحتلال.
كما تشاهدون، فإننا ننقل الشهداء والمصابين بمساعدة الأهالي عبر سيارات خاصة وعربات التكتك، وهذا دليل صارخ على وحشية الاحتلال الذي يستهدف الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف بشكل مباشر، كما أنه دمّر معظم المعدات الثقيلة التي تُستخدم في إنقاذ الأحياء من تحت الركام. هناك الكثير من الجثامين التي لا تزال عالقة تحت الأنقاض، ويصعب الوصول إليها تحت البيوت المدمّرة.
نعمل اليوم بإمكانيات محدودة جدًا وبمركبات متهالكة، ومعظم ما تبقى من مركبات إسعاف بحاجة إلى صيانة عاجلة، لكن الاحتلال يمنع دخول قطع الغيار اللازمة للمركبات مثل الإطارات والزيوت والبطاريات، مما يفاقم الكارثة، ويزيد الأعباء الملقاة على عاتق الطواقم العاملة. ومع استمرار تدمير البنية التحتية، يتضاعف العبء، ونعمل في ظروف معقدة للغاية لا يمكن وصفها بالكلمات.
يدعي الاحتلال أنه يحذر الأهالي قبل تنفيذ عملياته العسكرية ويطالب بإخلاء بلوكات معينة، ما صحة تلك المزاعم؟
منذ بداية العدوان، كان الاحتلال يستخدم القوة الصاروخية الهائلة على الأحياء السكنية لإجبار السكان على إخلاء منازلهم، ودمر منازل عديدة وقتل عددًا كبيرًا من أهلنا. وبعد عودة العدوان اخترق الاحتلال التهدئة وعاود القصف والدمار أمام مرأى العالم. اليوم يوزع الاحتلال خرائط للإخلاء بحجة “السلامة”، بينما في الحقيقة لم يعد هناك مكان آمن في قطاع غزة، وخاصة في المناطق الغربية، حيث هجّر الاحتلال جميع سكان غزة إلى مناطق ضيقة في الغرب، فيما تتكدس آلاف العائلات في الخيام في الطرقات والمساحات العامة. الوضع مأساوي للغاية، والناس يفضلون البقاء في منازلهم المدمرة على الخروج، إذ لا يوجد مكان يأويهم، والاحتلال مستمر في ارتكاب المجازر بحق شعبنا الأعزل.
أما على صعيد الطواقم الطبية، فقد استهدف الاحتلال كوادرنا منذ بداية العدوان، واستشهد عدد كبير من رجال الدفاع المدني ومقدمي الخدمة الطبية من وزارة الصحة والطواقم المساندة. نحاول تعويض هذا النقص من خلال استقطاب المتطوعين، لكن على مستوى المركبات والمعدات لا يمكن سد العجز، إذ يمنع الاحتلال دخول المركبات والمعدات الثقيلة، وهو ما يجعلنا أمام أسوأ كارثة إنسانية عرفها التاريخ. حتى أبسط حقوق الإنسان، مثل تلقي العلاج أو نقل المصابين من مكان القصف إلى المستشفى، أصبح أمرًا بالغ الصعوبة.
هل تتوفر لكم الآن الوسائل سواء البشرية أو المادية لاستكمال عمليات الإنقاذ؟
هناك عجز كبير في مركبات الإسعاف، ويتم نقل المصابين والشهداء أحيانًا عبر سيارات خاصة بمساعدة الأهالي. في كثير من الأحيان، يبقى المصابون على الأرض لفترات طويلة بسبب نقص المركبات، ونضطر لنقل أكثر من مصاب في سيارة إسعاف واحدة رغم أن البروتوكولات العلاجية تمنع ذلك، ولكن في غزة لا نستطيع الالتزام بهذه البروتوكولات العالمية بسبب ظروفنا القاسية.
إن المركبات التي نعمل بها حاليًا لا تصلح للعمل كمركبات إسعاف، ولكننا مضطرون لاستخدامها حتى يأتي فرج الله، وندعو لدخول مركبات إسعاف من مصر إلى قطاع غزة، إلا أن ما دخل حتى الآن قليل جدًا ولا يلبي احتياجات شعبنا. إن شعبنا محروم من أبسط حقوقه، وهو الحق في العلاج الذي كفلته القوانين الإنسانية الدولية، ومع ذلك، فإننا صابرون ومحتسبون أمام هذا الظلم العظيم، مؤمنون بعدالة قضيتنا، متمسكون بأداء رسالتنا في إنقاذ أرواح أبناء شعبنا رغم كل الصعوبات والمعيقات.