نعم هي مشكلات للتلهية!
في الوقت الذي يُفترَض فيه أن نُركِّز جهودنا الفردية والجماعية حول مشروع وطني مُتجدِّد بأهداف كبرى طموحة واستراتيجية في جميع القطاعات، ها نحن نجعل من القضايا الثانوية مشكلات كبرى تشد الرأي العام إليها ويُطرَح حلها كإنجازات كبرى. وهكذا بدل أن نفتح أمام أنفسنا بدائل المستقبل الرحب الذي سيكون عليه بلدنا في العشر سنوات القادمة مثلا، وبدل أن نُوسِّع مجال طموحاتنا إلى تحقيق أهداف كبرى تتسع معها مساحة الأمل لدينا وتقوى العزائم… ها نحن نُبعِد أنفسنا عن التبشير بالمستقبلات الزاهرة التي يُمكن صناعتها من الآن، ونزيد من مساحة التشاؤم يوما بعد يوم حتى بات بعضنا يعتقد أن مستقبلنا محسوم ولا مجال للتأثير فيه، بل ولا يتردد في الكشف جازما أنه سيكون أسوأ…
أي منهجية هذه في التفكير وفي إدارة الشأن العام، التي تكاد تُقنِع نفسها والجميع أن المستقبل محسوم، وهي فقط مَن تعرفه وتعلم أنه سيكون أسوأ. أي نمط من التحليل هذا الذي يعتقد بوجود مستقبل محدد سلفا ـ أسوأ أو أفضل ـ وهناك من يعلمه ويستطيع الكشف عنه. أليس من واجبنا اليوم أن نعيد تصحيح منظورنا للأشياء، بأن المستقبل غير محسوم في أي مجال من المجالات، وإنما يصنعه وعي الرجال والنساء بإرادتهم وقدرتهم بتوفيق من الله تعالى إذا ما أخلصوا النية وعملوا بصدق في هذا الاتجاه أو ذاك؟
يبدو لي أن معركتنا اليوم هي بالأساس في الانتصار على هذا النمط من التفكير البائد الذي لا يقبل إلا بالفرعيات ولا تهمه إلا الأحداث الساخنة ولا يتفاعل إلا مع الإثارة والجلبة والصخب. وهذا الانتصار يبدأ من تحييد تلك المشكلات الصغرى التي يتم من خلالها شد الرأي العام لأيام أو أسابيع أو شهور واستبدالها بطرح حلول للمشكلات الأكثر أهمية وذات الأبعاد العميقة والأثر الاستراتيجي على بلادنا.
هل مشكلة غلق باب البرلمان بالسلاسل والأغلال مشكلة رئيسية، أم هي للتلهية؟ هل مشكلة النِّقاب مشكلة رئيسية، أم هي للتلهية؟ هل جميع المشكلات الآنية المتعلقة بالتعليم والصحة والفلاحة والنقل والحياة اليومية للمواطن مشكلات رئيسية، أم نتاج مشكلات، أم أكبر منها؟ يبدو لي أننا في حاجة إلى طرح الأسئلة الجوهرية اليوم قبل الغد، وهي الأسئلة التي ينبغي أن تتعلق بالخيارات الاستراتيجية الكبرى للبلاد في كافة المجالات قبل فوات الأوان؟
ينبغي ألا تُغطِّي مشكلة غلق باب البرلمان على مشكلة فاعلية البرلمان في حد ذاته، ولا مشكلة النقاب على مشكلة القيم والأخلاق والمرجعية الإسلامية في بلادنا، كما ينبغي ألا يُقنعنا البعض بأن كل شيء محسوم ليُلغي إرادة التحسين والتطوير والبحث عن الأمثل، فما بالك أن يقول لنا بأن القادم أسوأ وما عليكم إلا أن تنتظروا كيف ستكونوا كباش فداء… أبدا، القادم لن يكون أسوأ أو أفضل إلا بما صاغه وعينا وصنعته أيدينا… وذاك هو جوهر مصدر كل أمل لدينا…