نم هانئا يا هنيّة
كان الدرب الذي اخترتَه بإرادتك للسير فيه، أيها المجاهد الشهم، دربا صعبا، مقفرا وموحشا، ومزروعا بالصعاب ومحشوّا بالمخاطر، وزرعت في منعطفاته الألغام مفرّقة، ولا ينساب فيه إلا الشجعان من أمثالك. وكان زادك إيمانك بعد أن صنعت سلاحك من تصميمك وعزيمتك وإصرارك. ولم تكن تعرف في طريقك الراحة والاستكانة، لأنك كنت طول الوقت مشغولا بالجهاد في سبيل فلسطين.
كان السّفر طويلا، ولكن لا شيء يثنيك عن رفعة الهدف المنتصب في القمة. وهو نصرٌ معزز ومؤزر أو ارتقاء في سلم الاستشهاد. ولم تكن تبحث عن الزعامة حتى تنعم بالمكاسب والتشريفات كما فعل ويفعل الكثيرون ممن أصيبوا بالانهيار الأخلاقي. وإنما الزعامة هي التي كانت تفتّش عنك بين الجموع، لأن في الزعامة، هذه المرة، أمانة لا يقوى على حملها إلا أهلها من أولي العزم والثبات. فقد نذرت العمر كله لفلسطين وأنت تحمل كفنك على كتفك، وكان لك، في نهاية المطاف، إحدى الحسنيين. فهنيئا لك.
من أولى سنوات يفاعتك، أدرتَ وجهك شطر هدفك، ووطّنت نفسك على التعلق به والتشبث بأهدابه، فلم تحد عنه، ولم تبال بالمثبّطين والمحبِطين والمستسلمين والخائرين. ولم تكن تلتفت إليهم حتى لا يكونوا أسباب إلهائك وإشغالك. وكنت، وكلّما خلوت إلى نفسك، إلا وانطلق لسانك الرطب يردد أنشودتك المفضلة كما يردد تلاميذ المدارس الابتدائية أناشيدهم الجميلة، إذ كنت تقول بين همس وجهر كمن يترنم بألحان الخلود:
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي
والموت ينقصني في كل منعطف
وحياتنا أنشودة صيغت على لحن الكفاح
وطريقنا محفوفة بالشوك، بالدم، بالرماح
يا دربنا، يا معبر الأبطال، يا درب الفلاح
إناّ إذا وضع السلاح في وجهنا، ضجّ السلاح
وإذا تلعثمت الشفاه، تكلّمت الجراح.
نشأتَ ونموت وكبرت في مخيم الشاطئ الغزاوي، وكان هذا المخيم المكتظ والذي يدعوه الغزّيون بـ”معسكر الشاطئ” بؤرة ساخنة منذ تأسيسه في سنة 1949م. ورغم بساطته وانعدام ظروف العيش الكريم فيه، إلا أنه كان مدرسة راقية لتلقين دروس الجهاد ومبعث الأرق والصداع للعدو. وفي هذا المخيم الذي تنبعث من أزقته الضيقة رائحة الزعتر الطيبة والنكهة الخالصة والمخلوط بالتوابل المشهية التي أنبتتها أرض غزة تعلّمتَ أول الدروس الإيمانية والجهادية والعسكرية على أيدي معلمين نصوحين وأفذاذ، ومنهم سيد شهداء غزة الأب المؤسس لحركة “حماس” وشهيد الفجر الشيخ أحمد ياسين قبل انتقاله إلى حي الشيخ رضوان. وبسبب السمعة المشرّفة لهذا المخيم الذي كتب شطرا من المقاومة الفلسطينية، أمعن العدو الجهول في قصفه تعميقا للانتقام من سكانه في الحرب الأخيرة.
كم كنتَ قريبا يا أبا العبد من الأرض ومن مواطنيك من شدّة تواضعك، وحتى لما انتُخبت رئيسا للحكومة في سنة 2006م، أبصرناك في إحدى الصوّر جالسا على رصيف معبر رفح جلوس العاديين بعد رفضك شروط الرباعية التي حاولا إملاءها عليك، وقررت العودة إلى عرينك غزة لتعلن موقفك بصوت مدوّ ومزلزل، قائلا: (لن نعترف بإسرائيل، ولن نقبل بشروط الرباعية، ولن نسلّم سلاح المقاومة حتى لو أكلنا الزعتر والزيتون). مما يعني أنك كنت متشبثا بأرض فلسطين، وغير مفرّط ولو في حبة واحدة من تربتها الطاهرة. ومن بعد ذلك نطقت ألسنة الثائرين الرافضين بأنشودة فخرية شجية، وأصبح إخوانك يستقبلونك مرددين لها بأصواتهم الندية المدوية في عز:
قال القائد إسماعيل
هذا النهج ولا تبديل
لو خضعت كل الدنيا
لن نعترف بإسرائيل.
يا أبا العبد، أيها الشهيد المضرّج في قطرات دمائه الزكية: أي قلب رُزقت؟ سبحان من برأ هذا القلب وملأ كل تجاويفه بالصبر والرضا والاطمئنان على المكاره مهما كانت عنيفة، فلم يكن صاحبه يجزع أو يقلق أو ينتابه الاضطراب أمام أعتى الابتلاءات وأشد المصائب التي واجهته. وحتى عندما فقد أكثر من ستين شهيدا من أبنائه وأحفاده وإخوته وأخواته وأقربائه، وقف شامخا كالطود، لم يجزع ولم يضجر. وما يزال الناس يذكرون جملته التي تفوّه بها في كبرياء لما وصله نعيُ عدد من أفراد أسرته، فلم يرفّ له جفن أو يذرف دمعا أو يطلق صيحات بكاء، وإنما قال: (الله يسهّل عليهم). وروى أحد مقرّبيه قائلا: (في اللقاء الأخير بيننا، ذهبت إليه معزّيًا باستشهاد أبنائه وأحفاده. وجدته مبتسمًا مشرق الوجه كما عرفته دائمًا. فسألته: “حتى وأنت في هذا الوضع تبتسم يا أبا العبد؟” قال لي: “أبتسم لأن الصفقة مع الله رابحة، ولأن العقد بيننا وبينه سبحانه وتعالى هو الجنة، وقد رزقها أولادي، وأسأله أن يكرمني بها.” كان يرى في استشهاد أبنائه وأحفاده أوسمة شرف تزيده قوة وإصرارًا على مواصلة الطريق).
روى أحد مقرّبيه قائلا: (في اللقاء الأخير بيننا، ذهبت إليه معزّيًا باستشهاد أبنائه وأحفاده. وجدته مبتسمًا مشرق الوجه كما عرفته دائمًا. فسألته: “حتى وأنت في هذا الوضع تبتسم يا أبا العبد؟” قال لي: “أبتسم لأن الصفقة مع الله رابحة، ولأن العقد بيننا وبينه سبحانه وتعالى هو الجنة، وقد رزقها أولادي، وأسأله أن يكرمني بها.” كان يرى في استشهاد أبنائه وأحفاده أوسمة شرف تزيده قوة وإصرارًا على مواصلة الطريق).
لم تسعد بشبابك، يا أبا العبد، ومن هم على شاكلتك كثر من شباب فلسطين السليبة؛ لأن همّ المقاومة كان يشغلك ويأخذ من وقتك. وكانت إدارة الاحتلال الماكرة تلاحقك بالاعتقال. وكانت الاعتقالات المتتالية ترفع معنوياتك لأنها تؤكّد لك أنك سائر في الطريق الصحيحة، وكانت تزيدك تمسُّكا بمبدأ الجهاد في تحدٍّ متعاظم.
من تمام كرم الله عليك أنه أبقاك حيّا مدة عشرة أشهر من انطلاق عملية “طوفان الأقصى” التي كنت مشاركا في التخطيط لها، وتأكّد أمام عينيك ضعف الكيان المحتل، واهتزاز بيته، وخواء فكره، وضعف شكيمة جنوده في ساحات المواجهات والمنازلات، ووقفت على ما يؤكد خبثه في التفاوض والتنازع بأسلوب الكذب والنفاق، وتأكدت من الانشقاق الذي ينخر الصف العربي ودرجة خذلان ونكوص أغلب الأنظمة العربية الرسمية. وفي المقابل، رأيت وقوف الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج وقفات تثلج الصدور لنصرة غزة والقضية الفلسطينية برمّتها بلا تقاعس أو تراجع. وأما في بلاد الغرب والعجم، فقد أكسبت هذه الغزوة المباركة القضية التي تنافح من أجلها أبعادا جديدة صحّحت النظرة بعد أن أبرزت همجية العدو وجبروته أمام العيان، وأظهرت انسلاخه من إنسانيته وسقوط أوراق التوت الأخيرة عن عورته.
في العادة، يكون الرّثاء للراحلين عن دنيانا، أما أنت، أيها الشهيد الفريد الذي عاش لمبادئه، فقد كُتب لك الخلود في أسفار التاريخ، وهو من نمط خلود العظماء الذين يزيّنون أرض فلسطين الحبيبة وسماءها. وقد نثر الله حبّك في القلوب، وخرج مشيِّعوك بمئات الآلاف. وفي إحدى الدول العربية ضاقت بهم الطريق بعد أن امتدّت صفوفهم المتزاحمة إلى أزيد من ألفين من الأمتار. وكم كانت صوّر مشهد وداعك الأخير مبهرة بروعتها وجماليتها.
كانت الكثير من مزاياك بعيدة عنا وواقعة في طي الخفاء والكتمان. وبعد رحيلك، اكتشفنا أنك مجوّدٌ للقرآن الكريم الذي تحفظه بصوت ناعم ومؤثر ومنشد طروب يجذب القلوب ويهزها، وخطيب مِصقَع يرتجل الكلام بفصاحة وبيان، ومحدّث بليغ لا يشقُّ له غبار.
لما كنتَ عالي الهمة وكبير النفس، لم أرد أن أحدّثك عن أولئك القوم الذين زاغوا وانحرفوا، وأزاغوا بأنفار عن جادّة الرشد وهم يسبحون مع تيار الغي الذي يخدم أهواءهم وشذوذهم، ورأوا في الغدر بك مكمن “استراحة” لهم. هداهم الله.
أما إخوانك الأوفياء في مسيرة المقاومة الجهادية المظفرة، فقد اختاروا خلفا لك بعد اتفاق، وحمّلوه الأمانة رغم ثقلها، وهم يسمعونه قولهم: (يا أبا إبراهيم، أحمل طرس العهد بكل ما أوتيت من جهد وقوة ورجولة، وإننا نعرف أنك لست من المفرِّطين). وهو الاختيار الذي أرعب العدو وأرعشه وسبّب له ارتجاف أوصاله. ولك أن تبشَّر بأن الجهاد متواصل على خطه المرسوم نفسه حتى النصر واسترجاع فلسطين وزهرة مدائنه القدس الشريفة.
سيظل اسمك وكنيتك، يا إسماعيل ويا أبا العبد، ينبوعا لن ينضب تستلهم منه أجيال فلسطين طاقة الذود عن حمى الأرض والعرض. وستظل فلسطين وغزة تسترجعان منهما سيرتك العطرة في عظمة وشموخ، وتتغنّيان بأمجادك ومنجزاتك.
فنم هانئا، يا أبا العبد هنية.