-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نهاية دور المؤرخ.. الذكاء الاصطناعي والسطو على سرديات الشعوب

نهاية دور المؤرخ.. الذكاء الاصطناعي والسطو على سرديات الشعوب

يحظى التاريخ بأهمية قصوى في حياة الشعوب والأمم والدول، فهو ذاكرتها التي يتم توارثها وتناقلها جيلا بعد جيل، وخزان ثقافتها الذي يمدها بالاستمرار والديمومة، لذلك تحرص الدول على حفظ وتخزين وإبراز تاريخها وذاكرتها الجماعية بعناية شديدة، حتى لا تفقد هويتها وانتماءها، ولا تضيع بوصلتها الحضارية فتصير غير قادرة على فهم الانتقالات والتحوّلات الكبرى في حاضرها ومستقبلها، فاقدة للرؤية الصائبة في تنظيم وضبط علاقاتها مع غيرها، فالذاكرة التاريخية تمثِّل عمقا استراتيجيا وجب حمايته وصيانته بكل قوة، فهي صورة حقيقية لماضي الأمة، وديوان مفاخرها وذكرياتها، ومستودع تجاربها بنجاحاته وانكساراته، وهي نقطة اللحام التي توحد شعبا ما وتميزه عن باقي الجماعات البشرية، فكل الذين يشتركون في تاريخ واحد يعتزون ويفخرون بمآثره لأنهم أبناء أمة واحدة، وشعب واحد، وهوية واحدة.

التأريخ.. من الألواح الطينية إلى البيانات الضخمة

اتجهت الشعوب منذ فجر البشرية الأول إلى تدوين وحفظ تاريخها بأدوات متنوعة، ولولا ذلك لما وصلت إلينا أخبارها، ومعاركها، وإنجازاتها، وتجاربها، ورموزها، وطقوسها، ونمط الحياة الذي كانت تعيشه، فكانت الألواح الطينية مثلا، التي وُجدت في “أور” العاصمة السومرية الأكثر مركزية وبيروقراطية في التاريخ القديم، والتي سُطِّرت عليها تقاليد السومريين ومعاملاتهم ومخزونهم المعرفي، وكانت أيضا أوراق البردي التي دوَّن عليها المصريون القدماء تاريخهم وطقوسهم وحضارتهم الفرعونية، في حين كان “هيرودوت” المؤرخ اليوناني يتنقل بين الأمصار وينقل الحقائق عن الأحداث من أفواه الرجال الذين يقابلهم ليجمع ذلك في كتابه الشهير “التواريخ”، لتتوالى الطرق والأدوات التي كتب بها المؤرخون التاريخ مع تطور الفكر الإنساني ومنجزاته، وباستغلال التطورات المعرفية والتقنية التي طالت أساليب الكتابة والقراءة عبر العصور، من مخطوطات وكتب وآلات تسجيل وغيرها، حتى الوصول إلى العصر المعلوماتي الذي وُجد في ظل الثورة الرابعة التي أحدثت نقلة نوعية في استجلاب التاريخ وتخزينه وتقديمه وعرضه بطرق مدهشة بواسطة وسائل التواصل والتوثيق بالصوت والصورة، قبل أن يغدو كل هذا أمرا تقليديا وقديما قد عفا عنه الزمن، بظهور ثورة خلَّاقة وفريدة دشنها الذكاء الاصطناعي والآلات التي تعتمد على الخوارزميات والتعلُّم العميق في إنجاز عمليات معقدة يعجز العقل البشري عن تحقيقها، والتي بدأت تغير أساليب التعامل مع التاريخ وحتى صناعته من خلال استغلال مناجم البيانات الضخمة المتاحة في المجال الافتراضي.

وهذه التقنية الآخذة في التطور وفق متتالية هندسية، تنوء اليوم بين الإيجابيات التي تقدمها للمؤرخين في التعامل مع المادة التاريخية وتيسير الوصول إليها ومعرفة الحقائق التي كانت صعبة المنال واستخلاصها، وبين الأخطار التي باتت تشكلها على تاريخ الشعوب وذاكرتها الجماعية، من خلال التحريف والتضليل والتزييف الفائق الذي يمكن أن يحصل بسبب “الحرب المعلوماتية” التي تميز العصر الرقمي الذي نحياه، لاسيما وأن التلاعب بالتاريخ أصبح سلاح حرب من الجيل الرابع، وهذا ما يحتم على الشعوب والدول الحرص على الحقيقة التاريخية والحفاظ عليها وصيانتها، ضمن رؤية أشمل في إطار الحفاظ على الأمن القومي حتى لا تكون نهبا للضياع والتفكيك والفوضى والتخريب، والجزائر ليست بمنأى عن هذا كله، خصوصا ونحن نلحظ هجمات كثيرة لسرقة تاريخها، ومحاولات حثيثة لضرب ذاكرتها وهويتها الوطنية والتشكيك فيها من جهات عدة وأعداء تاريخيين، يرومون السطو على السرديات التاريخية النقية واستبدالها بسرديات “سيمولاركية” مزيفة ومغلوطة لتحقيق أهدافهم.

المؤرخون الجدد في مجتمعات التأريخ المفرط

أمام الاستبداد التقني والرقمي الذي تمثله شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تستحوذ على مجمل البنى التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم، وعلى كل أنواع البيانات الضخمة (Big Data) الموجودة في العالم الرقمي، يبدو أن شركات (GAFAM) وهو الاسم المختصر الذي باتت تُعرف به شركات التكنولوجيا والتقنية العملاقة في عالم اليوم، التي تتمركز في وادي السيلكون بأمريكا، ويقصد بها “غوغل”، و”أمازون”، و”فيسبوك”، و”آبل” و”مايكروسوفت”، هي من ستتولى صناعة التاريخ والحل محل المؤرخين في سرد تاريخ الشعوب والأفراد والأمكنة، إذ ينتهي عهد المؤرخين الذين يعتمدون على المخطوطات والكتب والتسجيلات، من خلال برامج الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة مثلا التي تجيب عن مجمل الأسئلة المتعلقة بالتاريخ، وتعتمد على التنقيب في مناجم البيانات المخزَّنة في خوادم وسحابات هذه الشركات، وهي معلومات وحقائق لن تكون صادقة بالضرورة لاعتمادها على مدخلات يمكن لأي جهة أن تتولى هذه العملية، بحيث يتم إدخال معلومات وحقائق صحيحة.

كما يمكن إدخال بيانات ومعلومات تاريخية مغلوطة ومحرَّفة أو مختلَقة من العدم، لتأتي الخوارزميات فيما بعد وتجمع وتنظم وتفرز هذه المعلومات من كومة البيانات المتوافرة رقميا وتجعلها متاحة للباحثين، من دون النظر إلى مدى صدقها أو خطئها، لاسيما ونحن نعيش في مجتمعات “التأريخ المفرط- Hyperhistory” كما يسميها أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد، لوتشيانو فلوريدي، والممهورة بسِمة الاتصالية المفرطة بشبكة الإنترنت، بعد أن صار الهاتف المحمول امتدادا لحواس الإنسان وأعضائه (اليد تحديدا)، إذ يتّجه الأفراد، منذ اللحظة الأولى التي يستيقظون فيها من النوم، إلى قول ونقل وتشارك كل شيء من دون التحقق من صدقيته، وباتت البيانات الضخمة أو المفاهيم المرتبطة بها كالإغراق المعلوماتي أو التخمة المعلوماتية ليست هي المشكلة في حد ذاتها، ولكن في طريقة التعامل معها من طرف هذه الشركات التي لا تخلو من عقيدة أو أيديولوجية استبدادية وارتباطات مشبوهة تؤدِّي إلى خلق خوارزميات متحيزة أو “خبيثة” في تعاملها مع البيانات ذات الطبيعة التاريخية، أو إنتاج سرديات مختلفة من نصوص وصور ومقاطع فيديو مزيَّفة لا تمتُّ للحقيقة التاريخية بصِلة، فقد صار اليوم بفضل برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، إنتاج صور وفيديوهات تاريخية عالية الدقة، لكن لا يمكن لغير المختصِّين والمؤرِّخين التأكد من حقيقتها، وهو ما يؤدي إلى التضليل وتحريف التاريخ لدى الأجيال الجديدة التي جعلتها مواقع التواصل الاجتماعي غير قادرة على الانتباه والتمييز، وفاقدة لملكات النقد والتحليل، لأن هذه التقنيات والمواقع قادت إلى كتابة نهاية التجربة الإنسانية، أو لنقل إفقار التجربة المعيشة بتعبير الفيلسوف “فلتر بنيامين”، فالجيل Z (مواليد عام 2000 فصاعدا)، لا يعرفون العالم دون “غوغل” و”فيسبوك” و”تيلغرام” و”تيك توك” و”تويتر” و”ويكيبيديا”، فهم يعيشون حياة دائمة الاتصال (on life)، لذلك يسهل التلاعبُ بهم وتوجيههم وقولبة سلوكهم، وهم الفئة الأكثر عرضة للمعلومات التاريخية المزيفة والمغلوطة، لأنه بإمكانهم أن يصدِّقوا أي شيء تقذف به هذه المواقع والبرامج في ظل انخفاض حسِّهم النقدي؛ وكمحصلة لذلك، يمكن توجيههم للتسبُّب في صراعات اجتماعية أو سياسية نتيجة لقدرتها على إنتاج وسائط تبدو مُقنِعة ويصعب الكشف عن صحتها.

الزيف العميق.. الخطر القادم

تشكل اليوم تقنية الزيف العميق (Deepfake)، خطرا كبيرا على ذاكرة الشعوب ووعي الأجيال في خضمّ عصر ما بعد الحقيقة (post-truth)، فبفضل هذه التقنية الرهيبة يمكن لأصحابها أن يزوِّروا التاريخ ويتلاعبوا به بشكل ضارّ كيفما يشاؤون، وأن يسيئوا للرموز الوطنية والحقائق والثوابت بكل سهولة، من خلال تقديم محتوى رقمي جذاب في ظاهره، لكنه مخادع ومزيف في باطنه، فقد بات اليوم سهلا على الذكاء الاصطناعي إنتاجُ وثائق وصور وخرائط ومخطوطات تاريخية لا يمكن تمييز زيفها من صحتها، لاسيما إذا كانت تحتوي على معلومات وحقائق حساسة الهدف منها التضليل والتوجيه واستغلالها لصالح قضية ما أو نقيضها في مختلف المنابر والصراعات المحلية والإقليمية والعالمية.

ينتهي عهد المؤرخين الذين يعتمدون على المخطوطات والكتب والتسجيلات، من خلال برامج الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة مثلا التي تجيب عن مجمل الأسئلة المتعلقة بالتاريخ، وتعتمد على التنقيب في مناجم البيانات المخزَّنة في خوادم وسحابات هذه الشركات، وهي معلومات وحقائق لن تكون صادقة بالضرورة لاعتمادها على مدخلات يمكن لأي جهة أن تتولى هذه العملية، بحيث يتم إدخال معلومات وحقائق صحيحة، كما يمكن إدخال بيانات ومعلومات تاريخية مغلوطة ومحرَّفة أو مختلَقة من العدم، لتأتي الخوارزميات فيما بعد وتجمع وتنظم وتفرز هذه المعلومات من كومة البيانات المتوافرة رقميا وتجعلها متاحة للباحثين، من دون النظر إلى مدى صدقها أو خطئها.

وبإمكان هذه التقنية أيضا بثّ الروح في الأبطال والشخصيات الميتة التي أخصبت تاريخ أمة أو شعب وتحظى بالاحترام والتقديس، وجعلها تتكلم وتدلي بشهادات وخطب تبدو حقيقة للمتلقّين، باستغلال صورها ونبرة صوتها المتأتية من مناجم البيانات الضخمة، أو قد تجعل شخصيات أضرت بدولها وشعوبها أبطالا ومنقذين بنفس الكيفية، أو قد يتم إنتاج أفلام تسجيلية كاملة بالاعتماد على دمج الذكاء الاصطناعي وتقنية الزيف العميق، تتناول وجها من أوجه التاريخ الذي يخص شعبا أو جماعة، أو مرحلة مهمة من حياة الأسلاف الماضية، إذ تملأ بالأكاذيب والمعلومات المضللة والكاذبة، وتقذف في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام على أنها حقيقية، في محاولة لفرضها وإقحامها كحقيقة ثابتة أو ضرب ثقة الجمهور في حدث أو واقعة أو رمز والإضرار بالمجتمع، فأكثر عواقب عمليات التزييف العميق خطورة هي قدرتها على جعل الجمهور العادي يتساءل عما يراه، وكلما زادت مقاطع الفيديو المزيفة قلّت الثقة في التمييز بين الحقيقي والمزيف.

وهذه التقنية المثيرة للقلق، على الأغلب ستكون رائجة ومنتشرة بشكل كثيف بين المستخدمين خلال السنوات المقبلة بعد أن صارت برامجها متاحة للاستعمال العام وسهلة الاستخدام.

حماية الذاكرة الوطنية في عصر الذكاء الاصطناعي

إن هذه النظرة إلى الذكاء الاصطناعي ليست سوداوية بقدر ما هي تعبير عن واقع بدأت تنمو في أحشائه منذ مدة، هجماتٌ جدية لا تفتر في سبيل تشويه السرديات الوطنية أو خطفها، ومع ذلك، فإن لهذه التقنية الآخذة في التطور بشكل عجيب، إيجابياتٍ كثيرة وأوجهًا عديدة للاستفادة منها في حفظ الذاكرة الوطنية وتعزيزها وصيانتها، وسبر أغوار حقب وفترات تاريخية عاشتها الأمة وعجز المؤرخون عن استكشافها واستدعائها بما يخدم الشعب والدولة، فمن المأمول أن تُنقذ أدوات الذكاء الاصطناعي الآلاف من النقوش والمخطوطات والصور التاريخية والكتب النادرة في المكتبات والمتاحف الجزائرية من التلف، بإعادة ترميمها لاعتمادها في البحوث العلمية وإتاحة الاطِّلاع عليها ونشرها على نطاق واسع، فالذكاء الاصطناعي يُتيح لنا ترميم ما تُلف من تلك المصادر وإعادة بنائها، وملء ما فيها من فراغات وثغرات، والتنبؤ بما يناسبها من مفردات تتفق مع السياق العامّ، بالإضافة إلى إعادة تجميع الأحرف والرموز المبعثرة هنا وهناك، وصولا إلى نص مقروء ومفهوم.

كما يمكن الاستفادة من تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي في تقديم محتوى رقمي جذاب ومشوق للأجيال الجديدة التي تعيش على مواقع التواصل الاجتماعي وربطها بتاريخها وبذاكرتها الوطنية، وتوظيف هذه التقنية في فك طلاسم النقوش والآثار التي مازالت مجهولة لدى الجزائريين (رسوم الطاسيلي مثلا)، خصوصا أن العديد من المطوِّرين والعلماء في كثير من دول العالم تمكَّنوا من إنشاء برامج للذكاء الاصطناعي استطاعت ترجمة اللغات القديمة المبهمة.

أمام الاستبداد التقني والرقمي الذي تمثله شركات التكنولوجيا الكبيرة التي تستحوذ على مجمل البنى التحتية للذكاء الاصطناعي في العالم، وعلى كل أنواع البيانات الضخمة (Big Data) الموجودة في العالم الرقمي، يبدو أن شركات (GAFAM) وهو الاسم المختصر الذي باتت تُعرف به شركات التكنولوجيا والتقنية العملاقة في عالم اليوم، التي تتمركز في وادي السيلكون بأمريكا، ويقصد بها “غوغل”، و”أمازون”، و”فيسبوك”، و”آبل” و”مايكروسوفت”، هي من ستتولى صناعة التاريخ والحل محل المؤرخين في سرد تاريخ الشعوب والأفراد والأمكنة.

من ناحية أخرى، يجب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في محاربة السرديات الكاذبة التي تحاول اختطاف سرديتنا الوطنية أو تشويهها، وذلك من خلال برنامج الكشف والتصدي لهذه السرديات، التي تعتمد على آلية التعلّم العميق، ومواجهتها بكل صرامة تفاديا لانتشارها، خصوصا وأن المعلومات المضلِّلة والكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا انتشرت صعب تفنيدها وتطويقها، فهي -بحسب دراسات علمية- تنتشر بشكل أسرع من الحقيقية، وفرصتها في المشاركة أكثر بنسبة 70%، لذلك من المهم جدا أن نسعى إلى تكوين كفاءات من المطورين للتكنولوجيا للإسراع بإنشاء تطبيقات وأنظمة تقفِّي وكشف التزييف ومعرفة مدى أصالة ما يتعلق بتاريخنا الوطني في العالم الرقمي، وتطويقه قبل أن ينتشر بشكل ضارّ، ضمن برنامج دفاع وتمكين تكنولوجي، وفي إطار يقظةٍ تقنية شاملة حريصة على حماية تاريخنا وذاكرتنا الوطنية، موازاة مع استغلال الذكاء الاصطناعي أيضا في إبراز هذه الذاكرة المجيدة وهذا التاريخ الناصع الذي شكَّل على الدوام مصدر فخر للجزائريين، بالطرق المثلى والإيجابية لغرض صونه وتقديمه في أحسن صورة، ومن أمثلة ذلك الاستثمار في تقنيتي المستقبل، الواقع المعزز والميثافيرس، لإنشاء متاحف ومكتبات وصالات عرض تاريخية، مع العمل على نشر الثقافة الرقمية والوعي التقني بين الأجيال الجديدة حتى تتمكن من معرفة تاريخها الصحيح والأصيل، فتعمل على التمسك به والحفاظ عليه ونشره بكثافة على الشبكات، وكشف ما سواه من محتوى مزيف أو مضلل ينطوي على أهداف شريرة.

***

*

*

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!