نوفمبر.. الإلهام المتجدّد
لكل أمة في التاريخ مصدر إلهامها الذي تستمد منه قوتها، وتسطّر من خلاله مسيرتها في الحياة، ولأمتنا الجزائرية مصدر إلهام لا تختلف حوله الأفهام من حيث سريان روحه في كيان كل جزائري ورسوخ قيّمه في ذاكرة كل فرد من أفراد هذه الأمة المجيدة التي كتبت تاريخها بأيد مضرجة بالدماء، تاريخ يلخص آهات شعب مضطهد، اغتصبت أرضه وسلبت حريته، فقام يحطم الأغلال باذلا كل غال ونفيس من أجل تحرير أرضه والانعتاق من نير الاستعمار الذي ظن أنه قد تحوّل في عقول الجزائريين إلى واقع ليس له دافع.
نوفمبر إلهام متجدّد، يرتحل من زمن إلى زمن بالروح نفسه والشموخ ذاته الذي بدأ في الفاتح من نوفمبر 1954، الذي تحل ذكراه، ليمثل إلهاما متجدّدا عابرا للأجيال، يقوي عزيمتنا، ويعزز ارتباطنا بهذا الوطن المفدّى الذي لا يقبل القسمة، ويبقى عصيا على دعاة الفرقة وعرابي الفتنة، الذين يصطادون في الماء العكر ويحاولون عبثا، تمزيق أوصاله وإحداث القطيعة بين أجياله، باختلاق صراع وهمي بين الأجيال، يقلل من جهد الرجال، ويستهين بجهاد الأبطال الذين رووا هذه الأرض بدمائهم وقدّموا أرواحهم على مذبح الحرية ليعيش الجزائريون أحرارا على أرضهم، أسيادا في وطنهم.
نوفمبر سفر يختزن ذاكرة هذا الوطن من عهد يوغرطة إلى عهد بوبغلة، ومن عهد الأمير عبد القادر إلى العصر الحاضر. سفر نقرأ فيه بطولات شعب أبي لا يساوم على أرضه ولا يداهن ولا يهادن على قيمه ولا يدخر جهدا في الدفاع عن حدوده ووجوده. سفر نقرأ فيه بطولات بوبغلة وبوزيان والشيخ الحداد ولالة فاطمة نسومر والأمير عبد القادر، ونقرأ فيه ملاحم عميروش وابن مهيدي والحواس وزيروت يوسف وآخرين لا يتسع لهم هذا المقال.
نوفمبر إلهام متجدد، جاء ليضع حدا للمعاناة المريرة التي كابدها الشعب الجزائري منذ الإنزال الاستعماري المشؤوم في سيدي فرج من عام 1830، بهدف السطو على المقدرات وسلب الحريات بقوة الحديد والنار.
نوفمبر إلهام متجدّد، يذكّرنا بالقادة الأبطال الذين فجّروا الشرارة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي، عدّتهم أسلحة خفيفة ومؤن قليلة ولكن في أجسادهم عزيمة قوية وثقة بنصر الله وبعدالة قضيتهم وبالتفاف الشعب حولهم ونصرتهم. إن الدعم الشعبي للثورة الجزائرية هو الذي أبطل مخططات الاستعمار وأفشل مشروع “فرق تسد” الذي راهنت عليه فرنسا الاستعمارية، إذ انقلب السحر على الساحر وانتصرت روح النضال وعزيمة الرجال على مخططات التفرقة التي أنفقت عليها فرنسا أموالا طائلة فكانت وبالا عليها، كما قال الله تعالى: “إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنّم يحشرون”، (الأنفال 36).
نوفمبر إلهام متجدّد، نستلهم منه إرادة الصمود في وجه المكائد التي تحاك ضدنا من العدو ومن العدو الصديق والتي تصاغ في مخابر الإمبريالية والماسونية والصهيونية، ويتلقّفها الرعاع ممن لا يمثل الوطن بالنسبة لهم إلا كتلة ترابية يمكن بيعها أو استبدالها أو مقايضتها أو الزهد فيها لأن قيمتها عندهم من قيمة التراب الذي تتشكّل منه. إن هؤلاء نسخة مكررة من لورانس العرب الذي لا يحمل من الشخصية العربية إلا الشماغ العربي الذي يخفي شخصية ماكرة، تُظهر الود الزائف وتضمر الحقد الدفين لكل ما هو عربي.
نوفمبر إلهام متجدّد، نجدّد من خلاله عهدنا لروح الثورة ولرجال الأوراس والونشريس بأننا على عهدهم ماضون ولآثارهم مقتدون، فطول العهد لا يجعل منهم ماضيا مسكوتا عنه ولا يجعل منّا حاضرا مبتورا عن الماضي، فهم الماضي ونحن الحاضر، وماضيهم وحاضرنا هو الذي يرسم معالم مستقبلنا الذي لن يكون إلا امتدادا لقيم نوفمبر ولجهاد من صنعوا ملحمته في الفاتح من نوفمبر 1954.
نوفمبر إلهام متجدّد، نجدّد من خلاله وفاءنا لهذا الوطن الذي لا نرضى عنه بديلا ولا نقبل مقايضته بكل بلاد الدنيا، فهو المبتدأ والخبر والموطن والمستقر، قد نغيب عنه فترة ولكننا نعود إليه كما تعود الطيور إلى أوكارها. إنه الوطن الذي لا تسعفنا الكلمات لوصف مشاعرنا حيّاله وحبنا له وتعلقنا به. إنه الوطن الذي نلبي نداءه في كل حين ونستميت في الدفاع عنه إلى آخر رمق من حياتنا. إن حب الوطن غريزة مركوزة في أعماقنا ممزوجة بمهجنا، نموت ليحيا ونفنى ليبقى فقد وجدنا فيه لنؤدي دورنا ثم يطوينا الزمان كما طوى غيرنا، سيفنى جيلُنا وستنتقل مسؤولية حراسة الوطن إلى الأجيال التي بعدنا وهذه سنة الله فينا وفي الذين من قبلنا.
نوفمبر إلهام متجدّد، نستلهم منه الأسوة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية ضدّ كل تحريف أو تزييف لقيم الثورة ولسيرة الرجال الذين صنعوها، وضد كل محاولة يائسة من أجل إفراغها من محتواها وجعلها شكلا من أشكال التمرّد الذي يعطي شرعية للمحتل وينزع الشرعية عن صاحب الأرض، وضد كل تسييس مغرض للذاكرة تحت ذريعة نسيان الماضي والبحث عن نقاط التوافق الذي يعني في اعتقادنا تحريفا للذاكرة وانحرافا بها عن مسارها الصحيح وغايتها المثلى. إن النقاش حول الذاكرة الوطنية يعني لنا نحن الجزائريين شيئا واحدا وهو محاسبة حقبة استعمارية برمّتها لا تجزئتها لغرض التحايل وافتكاك التنازل عن مطالبنا التقليدية وفي مقدّمتها تجريم الاستعمار وتحميله وزر الدمار الذي حل ببلادنا والظلم الذي طال أهلنا على امتداد اثنين وثلاثين سنة.
نوفمبر إلهام متجدّد، نجدّد من خلاله عهدنا لروح الثورة ولرجال الأوراس والونشريس بأننا على عهدهم ماضون ولآثارهم مقتدون، فطول العهد لا يجعل منهم ماضيا مسكوتا عنه ولا يجعل منّا حاضرا مبتورا عن الماضي، فهم الماضي ونحن الحاضر، وماضيهم وحاضرنا هو الذي يرسم معالم مستقبلنا الذي لن يكون إلا امتدادا لقيم نوفمبر ولجهاد من صنعوا ملحمته في الفاتح من نوفمبر 1954.
قرأت تقرير المؤرخ بنيامين ستورا حول الذاكرة الوطنية والذي قدَّمه للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فألفيته تقريرا عاما، لا يضع الإصبع على الجرح، ولا يتوصَّل من خلاله إلى حل الإشكالات العميقة التي يثيرها ملف الذاكرة. إن الحياد قد يكون شكلا من أشكال الموضوعية، ولكن الحياد المبالغ فيه قد يكون مظهرا من مظاهر التهرّب من الحقيقة وحل معادلة “الجلاّد والضحية” التي لا تحتاج إلى لف ودوران بل تحتاج إلى شجاعة المؤرخ في نقل الحقائق التي يدعمها كم هائل من الوثائق.
إن احتفال الجزائر بالذكرى السبعينية للثورة المظفرة، مناسبة لتقييم النقاش الجزائري الفرنسي حول ملف الذاكرة ولتصحيح بعض المسارات، ولتأكيد الخيارات التي وضعتها الجزائر التي تعطي للذاكرة بعدها التاريخي والنضالي لا أن تكون مجرد مسودة لإرضاء كل الأطراف وحسم الخلاف. إن مصطلح “أحداث الجزائر” ومصطلح “معركة الجزائر” لا يعبِّران عن الزخم الكبير الذي تحمله الثورة الجزائرية، فهي ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل هي ملهمة الثورات في أمريكا اللاتينية وغيرها، ولمن يريد التأكد من ذلك أن يطلع على شهادات فيدال كاسترو وشي غيفارا وشهادات بعض أصدقاء الثورة الجزائرية، التي تشيد كلها بعظمة هذه الثورة وبكونها مصدرا للإلهام لكثير من الثورات.
إن أحلام لافيجري التي نسفتها وسفّهتها الثورة التحريرية ينبغي أن لا تعود، وإن الاستعمار الاستيطاني الذي طرده الثوار ينبغي أن لا يعود من بوابة الحوار الذي لا يأخذ في الحسبان وضع الضحية والجلاد، وينبغي أن لا يعود من بوابة “نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة من العلاقات والتقارب”. إن الدعوة إلى نسيان الماضي تعني نسيان التاريخ الأسود للاستعمار الفرنسي، وهذه حيلة لا تنطلي على حراس هذا الوطن وعلى من انتدبتهم الجزائر كأعضاء في ملف الذاكرة، فالوطنية التي نعرفها عن هؤلاء جديرةٌ بوضع الأمور في نصابها ورفض كل ما يتنافى مع خياراتنا ومبادئنا.