-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هجرة الأدمغة.. من أمريكا!

هجرة الأدمغة.. من أمريكا!

جيسون ستانلي Stanley فيلسوف أميركي يهتم بالفلسفة السياسية واللسانيات، وهو من أصول يهودية فرّ والداه إلى الولايات المتحدة من القارة الأوروبية عندما سطع نجم هتلر خلال ثلاثينيات القرن العشرين. يدرّس ستانلي في جامعة ييل الأمريكية الشهيرة، وقد صرح مؤخرا أنه “لا يمكن من الآن لأي أستاذ ليست له الجنسية الأمريكية في جامعة ييل التحدث بحرية عن السياسة”. وأدى به هذا التضييق على الحريات الجامعية إلى الهجرة من الولايات المتحدة إلى جامعة كندية في تورنتو، ذلك أن الوضع في الولايات المتحدة لم يعد محتملا للباحث والأستاذ بصفة عامة. فالمناخ الذى بدأ يلقي بظلاله في الولايات المتحدة تجاه التعليم العالي والبحث العلمي سهّل على الجامعات الكندية استقطاب عدد كبير من الجامعيين الأمريكيين. وقد انطلقت هذه الهجرة نحو الشمال بقوة.

مصائب قوم عند قوم فوائد!

وبهذا الصدد، ترى الجمعية الكندية لأساتذة الجامعات أن الفرصة الآن صارت سانحة لجلب أفضل الجامعيين الأمريكيين إلى كندا مشيرة إلى أن بلادها “كافحت منذ مدة طويلة من أجل إيجاد سبل للاحتفاظ بمواهبها المحلية وجذب الأكاديميين الدوليين. ونظرًا للتطورات في جنوب الحدود [أي في الولايات المتحدة]، فمن المؤكد أن هناك فرصة سانحة الآن لكندا… لكننا نتنافس أيضًا [في هذا الموضوع] مع دول أخرى”.
وقبل أيام، وقّع وزراء العلوم في الاتحاد الأوروبي رسالة موجهة إلى المشرفة في هذا الاتحاد على الشركات الناشئة والبحث والابتكار، مطالبين بضرورة الترحيب “بالمواهب القادمة من الخارج التي قد تعاني من مشاكل في مجال البحث العلمي وتخفيضات التمويل السيئة والوحشية” لمنظمات “مثل المعهد القومي الأمريكي للصحة (NIH) والمؤسسة القومية الأمريكية للعلوم (NSF)” التي كانت تخصص لوحدها نحو 10 ملايير دولار سنويا لدعم البحث العلمي في الولايات المتحدة.
كان الفيلسوف جيسون ستانلي قد ألّف كتابين، عنوان الأول” كيف تعمل الفاشية” (How fascism works) الذي صدر في بداية العهدة الأولى لترامب. أما عنوان الكتاب الثاني الذي نُشر قبل بضعة أشهر فهو “محو التاريخ: كيف يعيد الفاشيون كتابة الماضي للسيطرة على المستقبل”( Erasing History: How fascists rewrite the past to control the future ) ، شرح فيه الهجوم اليميني المتطرف على التعليم الأمريكي بدءًا من رياض الأطفال ووصولا إلى التعليم العالي، مَوجِّهًا انتقادات قاسية لهذا النظام قائلا: “إن البلد الذي فرّ إليه أهلي من ألمانيا وبولندا عام 1939 يحكمه الآن نظام فاشي”
ومما صرح به بعض الخبراء الكنديين عقب التوجّه الجديد للحكومة الأمريكية، قولهم مثلا: “كنا نبيع معظم ملكيتنا الفكرية في مجال الذكاء الاصطناعي إلى غوغل وغيرها. ثم نشتريها مرة أخرى بسعر أعلى. والآن، هناك إدراك بأنه لا يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة”.
لقد أظهر سبر لآراء الباحثين والجامعيين في الولايات المتحدة قامت به مجلة “نيتشر” (Nature) البريطانية الشهيرة قبل أسبوعين أن 75% من هؤلاء العلماء صرحوا بإنهم “يفكرون في مغادرة البلاد بسبب الاضطرابات التي أحدثتها إدارة ترامب في مجال العلوم”. وهذا الاستطلاع يكشف عن أن هؤلاء ينوون التوجّه إلى البلدان التي لهم فيها زملاء كانوا يتعاونون معهم في السابق.
إن التخفيضات الضخمة في تمويلات البحث العلمي والتعليم والرقابة المفرطة على نوعية البحوث، وعمليات التسريح الجماعي في مؤسسات أمريكية كثيرة أقنعت العديد من العلماء الأميركيين بضرورة مغادرة بلادهم لمواصلة أبحاثهم في الخارج. وفي هذا السياق، يقول رئيس جامعة “إيكس مرسيليا” بأن الأمر يتعلق بـ”هجرة جديدة للأدمغة”، مضيفا أنه تلقى ما يقرب من مائة طلب التحقاق بمؤسسته من العلماء الأميركيين منذ السادس من مارس الفارط.

كانت أمريكا كعبة الأكاديميين…

فما كان يجذذب الباحثين وأساتذة الجامعات من كل مكان إلى الولايات المتحدة منذ عقود وعقود هو: وفرة تمويل البحث العلمي، وحرية المبادرة فضلا عن حرية التعبير والعبادة، ووفرة الإمكانيات البشرية والمادية ويُسر الوصول إليها للمجدّين. فكيف لباحث أو عالم كان يتمتع بكل الظروف المواتية لأداء مهامه أن يعيش الآن مطمئنا بعد أن تم التضييق على حريته وتقييد تمويل أبحاثه بعديد الشروط، منها على سبيل المثال، ألا يَرِد فيها لفظ “المناخ” ومئات الألفاظ الأخرى في الوثائق الرسمية !! والسبب هو أن الحكومة الجديدة تشن حملة ضد من ينادي بالعمل على الحد من التغيرات المناخية. ويذكر المتابعون أن السلطات تستعمل الذكاء الاصطناعي للمراقبة الآلية لكشف البحوث المنشورة وكذا التي هي قيد النشر لمعرفة ما إذا التزمت بعدم استعمال الألفاظ الممنوعة. ومن تجد أنه أخلّ بهذا الشرط تقطع عنه أو عن مؤسسته التمويلات ! ومن يدري إن كان هذا الباحث لا يمتلك الجنسية الأمريكية، فربما يكون محلّ طرد وتهجير من البلاد. ففي أي وضع كان هؤلاء العلماء، وأين أصبحوا بين عشية وضحاها؟ !
ويتذكر هنا المتتبعون ما جرى من تزوح للعلماء حين اندلعت الحرب العالمية الأولى في أوروبا عام 1914، وحين ظهر الحكم الشيوعي عام 1917 في موسكو، وحين فرّ نحو 5500 أكاديمي وكاتب وفنان يهودي من ألمانيا عند بروز هتلر في ألمانيا. ولم تتوقف هذه الهجرات في كل بلد عرف اضطرابات ومضايقات للعلماء. ويتذكرون في كل تلك المراحل أنه أنشئت شبكات لتسهيل هجرة العلماء نحو بلدان أقل مضايقة لهم. فهل سيتكرر المشهد اليوم لتسهيل الهجرة من الولايات المتحدة إلى بلدان أرحم؟
كيف لا، وقد صرحت إحدى المستشارات لرابطة أساتذة الجامعات الأمريكية قائلة: “هناك خوف غير عادي في الحرم الجامعي على أعلى المستويات”، وأضافت أن “إدارات الجامعات مرعوبة من احتمال خسارة ملايين وملايين الدولارات من التمويل”. وهذا ما أدى إلى ظاهرة لم تكن موجودة تتمثل في أن الأكاديميين الأمريكيين (وكذا مؤسساتهم) أصبحوا يمارسون “الرقابة الذاتية” إذ بدأ الباحثون في المجالات الطبية وغيرها -الذين كانوا يعتبرون أعمالهم في السابق غير سياسية- بإعادة النظر في هذا الافتراض.
ولعل أفضل مثال يعكس المنهجية المتبعة ضدّ الجامعات من قِبل السلطات هو سحب 400 مليون دولار من تمويل العقود الفيدرالية المخصصة لجامعة كولمبيا، وهذا لمعاقبتها على “تساهل” إدارتها مع المحتجين ضد الحرب على غزّة. ومن التداعيات السلبية لسياسة السلطة الجديدة على مكانة البلاد في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، توقف جامعة هارفارد على التوظيف بعد تجميد تمويلها الحكومي. كما أن هناك 2000 موظف من جامعة جونز هوبكنز في طريقهم نحو فقدان مناصبهم علما أن خلال فترة جائحة كورونا، كانت هذه الجامعة ترصد البيانات من مئات المصادر حول العالم وتعرضها في موقعها، وأدى بها ذلك إلى أن تصبح الجامعة الأكثر استشهادًا بها فيما يتعلق ببيانات الجائحة.
لعل ما صرح به الفيلسوف ستانلي السابق الذكر -في إشارة إلى إدارة ترامب- يعبّر بصدق عما يحدث الآن للولايات المتحدة: “إنهم يدمّرون بلدي. إنهم يدمرون بلدي عمدًا” معتبرا أن “تفكيك الجامعات” عنصر بالغ الأهمية في هذه العملية المدمرة للبلاد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!