هذا أوان القصاص

دخل الجزائريون في حالة من الصدمة والذهول في الأيام الأخيرة إثر سماعهم خبر إقدام “أب” تجرّد من إنسانيته، على رمي أطفاله الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و11 سنة في بالوعة للصرف الصّحي، وحرقهم ببرودة دم غريبة، حتى الموت!
وبرّر “الأب” جريمته الوحشية بحقّ فلذات أكباده بـ”الضغوط”، حسب وكيل الجمهورية لدى محكمة غرداية، وقد تسرّبت أنباء عن أنّ خلافاته مع زوجته الأولى وأمّ أطفاله هي السبب الذي دفعه للجريمة، ولا ندري أيّ خلافات تبرّر مثل هذه الجريمة التي تقشعرّ لها الأبدان؟
ذكّرتنا هذه الجريمة الوحشية بأخرى ارتكبها “أب” من قسنطينة بحقّ ابنتيه اللتين قتلهما بمطرقة في أواخر سبتمبر الماضي، واللافت للانتباه في تلك الجريمة أنّ “الأب” أقدم على قتل ابنتيه (18 و26 سنة) بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه 15 سنة عقابا له على قتل زوجته وأمّ البنتين في سنة 2009، بسبب “شكوكه” في سلوكها!
مثل هذه الجرائم البشعة أصبحت “ظاهرة” يومية، للأسف الشديد؛ ففي كلّ يوم تنشر الصحف أخبارا عن إزهاق أرواح جزائريين، لأسباب عديدة، وفي بعض الأحيان تافهة، مثلا، مواطن مسنّ في السبعينيات يقتل جاره بالفأس بسبب خلاف على الماشية، وقد حكم عليه بـ15 سنة سجنا، وشابّ يذبح آخر بعنابة بسبب دين لا يتعدّى 3 ملايين سنتيم منحه له مقابل وعد بمنحه مهلوسات، لكن الضحيّة لم يف بوعده، فقتله صاحب الدين. وهنا تظهر آثار المخدّرات وحبوب الهلوسة في تفاقم الجريمة خلال السنوات الأخيرة خلافا للعقود الماضية، فهي أشدّ خطورة من الخمر وأبو الخبائث، ما يستدعي مكافحة هذه الآفة بنجاعة أكبر بعد أن أصبح مئات الآلاف من شباننا وربما الملايين يتناولونها أو يدمنون عليها.
تفاقم الجريمة في السنوات الأخيرة يجعل من الملحّ العودة إلى تنفيذ أحكام الإعدام بعد تجميد غير مبرّر منذ أواخر 1993 إلى اليوم، وقد أثبتت تجربة 31 سنة كاملة من تجميد التنفيذ أنّ الجريمة قد تضاعفت ولم تستطع عقوبة السجن سنوات طويلة علاجها. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ما ذكرناه آنفا عن “الأب” الذي قضى 15 سنة في السجن إثر قتل زوجته في 2009، فقد قتل ابنتيه بلا تردّد بعد خروجه من السجن في 2024، وهذا دليل قاطع على أنّ عقوبة السجن مدّة طويلة غير رادعة. وبعيدا عن الجدل بشأن الآجال والأعمار، فإنّ إعدام هذا المجرم إثر قتل زوجته كان سيحمي حياة البنتين، أو أنهما تتوفّيان نتيجة أسباب أخرى، وهو أهون من أن يقتلهما والدهما الذي كان يفترض أن يكون مصدر حماية وأمان وطمأنينة لهما، لكنّ القضاء فضّل عقوبة 15 سنة سجنا فقط، وكانت النتيجة مأساة أخرى بدل إصلاح سلوك الجاني.. فهل بقي بعد هذا لأدعياء “حقوق الإنسان”، في الداخل والخارج، حجّة للقول إنّ عقوبة السجن كافية لردع الجريمة المتفشّية وإصلاح سلوك المجرمين؟
هذا الطرح سمعناه مرارا في السنوات الأخيرة، بل إنّ بعضهم من ذوي الاتجاه العلماني التنويري الحداثي المزعوم، عقد ندوات عديدة للطعن في عقوبة القصاص ووصفها بـ”الوحشية” و”الهمجية”، ونفى عنها أيّ طابع إنساني، وطالب بالإبقاء على عقوبة السّجن سنوات طويلة، وزعم أنّها تستجيب لمبدأ “الحقّ في الحياة” الذي تكفله لوائح حقوق الإنسان الوطنية والعالمية!
وخلال السّنوات الأخيرة التي ساد فيها هذا الطرح الذي يدافع عن “حقّ” المجرمين “في الحياة”، قتل هؤلاء الوحوش المئات من الجزائريين الأبرياء، الكثير منهم أطفال تعرّضوا قبلها للاختطاف وانتهاك الأعراض قبل قتلهم بوحشية، ولم يتحدّث هؤلاء المدافعون عن “حقوق الإنسان” عن حقّ الأطفال الأبرياء في الحياة، والذي سلبهم منه هؤلاء المجرمون بكل همجية ودموية!
وعندما يؤكّد الشّرع أنّ الحياة قصاص، فهو يقصد الحياة للأبرياء وحماية المجتمع من المجرمين الذين ينبغي أن يكون مصيرهم القصاص بعد اقتراف أوّل جريمة لهم، وهذا ما لم يحدث، للأسف، إثر إقدام القاتل بقسنطينة على قتل زوجته قبل 15 سنة، فشجّعه ذلك على إعادة الكرّة ضدّ ابنتيه بعد خروجه من السّجن.
مأساة غرداية بحقّ أربعة أطفال أبرياء، آلمت كلّ من سمع بها، ولكنّنا نتمنى أن تكون محطّة لتصحيح الوضع ورفع التجميد غير المبرّر عن أحكام الإعدام، وتنفيذها بلا تردّد، فذلك أدعى إلى محاربة الجريمة المتفشية في مجتمعنا، وتخفيضها إلى أدنى المستويات، لاسيما إذا قرن ذلك بمكافحة فاعلة لتهريب المخدرات والمهلوسات، ولا ننسى أنّ الولايات المتحدة نفسها تنفّذ الإعدام في بعض ولاياتها، ومن دون أدنى اكتراث بأدعياء “حقوق الإنسان” العالميين الذين يضغطون على الدول الإسلامية لإلغاء هذه العقوبة.