-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أزواج يفضلون الكراء على البقاء في بيت العائلة الكبير

هروب الكنة وانهيار مملكة العجوز

فاروق كداش
  • 3895
  • 0
هروب الكنة وانهيار مملكة العجوز
بريشة: فاتح بارة

كان بيت العائلة عامرا بناسه، بالأولاد يلعبون في بهوه وساحاته، الكناين منهمكات في الترتيب والتنظيف، وأخريات يحملن راية المطبخ، يطهين بكل حب لكل أفراد هذه العائلة الكبيرة، الباب لا يكاد يقفل من فرط حركة الذهاب والإياب، حتى الجارات لا يقرعن بل يلجن بإيماءة صغيرة من الوجه. سنتوقف قليلا، لأن ما نحن بصدد وصفه هو صورة قديمة للدار الكبيرة، التي نكاد نجزم بأنها اختفت تماما إلا في حالات نادرة. كيف تصدع البيت الكبير، ومن السبب، وكيف انهارت إمبراطورية العجوز، أمام زحف الكنة الحديثة؟

الزمن تغير لدرجة أن تركيبة المجتمع الجزائري تغيرت جذريا، وما كان سائدا الأمس صار ضربا من ضروب الأساطير، تحكيها الأمهات لبناتهن المقبلات على الزواج، واللواتي اشترطن بيتا للزوجية لتخويفهن من مغبة التفريط فيه.

الحاضر مختلف الآن، صار مألوفا أن تتزوج الفتاة وتزف من بيت أهلها إلى بيت زوجها المنفرد البعيد عن جبروت العجوز وتسلط اللوسات، كنة اليوم لا تخشى المجتمع والقيل والقال، براغماتية لدرجة أنها مقتنعة بأن بعلها هو سر سعادتها، لا رضا حماتها ودعوات شيخها أو حماها. بيتها تنظمه على مزاجها، فلا أحد يوقظها كي تغسل ملابس العائلة، ولا لوسة تطرق بيت غرفتها كي تأمرها بغسل الجدران أو تحضير الطعام لجيش من الجائعين. كنة اليوم مستقلة. كيف لا وهي تلازم مواقع التواصل الاجتماعي التي تروج لاستقلالية المرأة ولمستوى معيشي غير واقعي للغاية.

ولكن، ماذا عن كنة الأمس؟ أين هي الآن؟ هل انقرضت أم صارت هي الأخرى مستقلة في بيتها الجديد، بعد انتظار دام عشرات السنين بين جدرات غرفتها الضيقة؟ أين الكنة التي كانت تخشى عجوزتها كي لا تشتكي منها لزوجها، هل رأيتم اليوم الكنة الصبورة التي تقف إلى جانب زوجها رغم الصعاب والعراقيل؟

عجوز الأمس وعجوز اليوم

السؤال الذي يلح علينا أن نطرحه، ما هي حال العجوز اليوم التي كانت بالأمس سيدة البيت وسلطانته، لا ينازعها فيه أحد والكل معلق بأوامرها، فإن رضت فلهن الرضا، وإن سخطت وغضبت سلط على المتسببات في شقائها أقسى أنواع العذاب، هو شكوى الحماة لابنها الذي يعطي الحق لأمه ظالمة أو مظلومة.

العجوز اليوم لا تطلب الحكم المطلق، بل أن تترك وشأنها. فرغم مرور أجيال عليها، كانت تطبق على كنايتها ما كانت تطبقه حماتها عليها، ولا تهم العواقب.

العجوز اليوم في حال أرادت أن تحافظ على العرف السائد وعلى التقاليد العريقة، ستواجه تمرد الكنة، التي تطلب ببيتا فرديا لها ولأسرتها، ولا يهم أبدا وضع زوجها المالي، إن لم تكن تملك بيتا فلا مفر من كراء شقة في عمارة أو طابق في بيت واسع، المهم الهروب من وجع الرأس ونظرات العجوز المعاتبة ومؤامرات اللوسة الغاضبة.

الأزواج اليوم يختارون الكراء كحل أول، بدل خوض تجربة العيش في البيت الكبير، لأنهم يدركون أن التاريخ سيعيد نفسه، ما عاشته أمهاتهم تحت وطأة حماتها سيتكرر كسيناريو بدأ بسطر وأضافت له نساء العالم عصارة خبرتها على مدى أجيال.

الاستقرار العائلي أو الهروب المبرمج من البيت الكبير، لم يعد موضوعا للنقاش فهو بديهية من بديهيات الحياة، ومع كثرة العقار ووفرته وصيغ السكن المنتشرة، صار الأزواج يفضلون كراء شقة صغيرة في مكان بعيد. فهذا لا يهم طالما هناك سيارة تقل الأسرة إلى أي مكان تريد.

سألنا بعض العينات عن هذا الموضوع، وهل يفكرون مسبقا في الكراء بدل العيش في بيت الفاميليا، أيمن مثلا، لم يصر على زوجته كي تبقى في بيت أهله، بل عرض عليها كراء شقة صغيرة في قلب العاصمة، رغم غلائها، خاصة وأن زوجته موظفة هي الأخرى، وكما يقول “تعاون” في مصاريف البيت بينما يدفع هو كراء البيت الصغير بين العمارات.

أمينة ترفض رفضا قاطعا العيش في بيت زوجها: لن أرتاح أبدا، كنت شاهدا على ما حصل لأمي، ولن أكرر هذه التجربة أبدا”. كاميليا، تشاطر أمينة الرأي، غير أنها تؤكد أنه ليست كل التجارب تتشابه، فهي مثلا، عاشت سنوات وسنوات تحت سقف حماتها، ولم يحدث شجار بينها وبين حماتها.

مهدي، كان له رأي مختلف، فهو الابن الوحيد المتبقي لأمه، بعد أن استقر إخوته في الخارج، وحجته في الموضوع بعد أن أكد أنه سيسكن مع أمه: “مرا كبيرة لا يمكن أن نتركها وحيدة”.

السيدة موني، رأيها كان مزيجا من الواقع والمبالغة: “تزوجت في بيت العائلة، كانت تجربة مريرة طيلة ثلاثين سنة، واليوم لا يمكنني التغيير لأنه بلغ مني العمر عتيا”. وتردف: “لن أزوج ابنتي لمدلل أمه، أو لأي أحد يقطن في بيت العائلة”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!